نقطة عمياء

#نقطة_عمياء

مصعب البدور

تلقي الحياة السياسية في بلدنا الأردن ظلالها على كل شيء، وتنعكس آثارها في كل مكان في جلسات العوام والحركة التّجارية، والانتخابات وحركة المرور وتفاصيل الدراما، وتسيطر على كلمات الأغاني وألحانها وتصنع الحركة الإعلامية، فبين مؤيد ومعارض تروج شاشات الإعلام المرئي والمسموع التصفيق والاحتفالات بكل إجراء حكومي من جهة، والاعتراض على كل حركة حكومية من جهة أخرى، ويشوب هذه الأجواء نقطة عمياء لا يمكن رؤيتها بسهولة؛ فهي تحتاج إلى استدارة ونظر جيد من أجل المسير والمرور بسلام، فوجود شيء غامض باستمرار ( نقطة عمياء) يعني حضور خطر التصادم أو التدهور أو الانزلاق في أي هاوية، لذلك لابد للجميع أن يراعي كل تعليمات الطريق السليمة لكي تعبر مركبتنا الأردنية في ظل ظروف المنطقة العربية الملتهبة وتغييرها المستمر، بل إنّ ظروفها كلها متغيرات لا تكاد تجد فيها ثابتا واحدا.
لافتة كبيرة:
لا غرابة في وجود جهة رسميّة تتوسط دائرة التأييد أو المعارضة، ولا غرابة في وجود نقطة عمياء في مسيرة دون تخطيط حقيقي يخدم الوطن بعيدا عن جغرافيته وعن شخصياته، وفي ظل تخطيطٍ فَقَدَ بَوْصَلَته وضاعت قبلته، إنما تكمن المشكلة في كيفية تعاطي هذه الموضوعات في شارعنا الأردني، فالشارع الأردني بمكوناته وتياراته كافة يتعاطى مع أي قضيّة أو مستجدّ بطريقة واحدة وهي أخذ ما تروّجه الجهات الرسمية وتحليله، وتأييده، أو انتقاده، مما يعزز الرواية الرسمية بخلق جو من الأخذ والرد وإعادة الكلام، فهذا الزخم من النقاشات والتداول يتحول إلى ترويج للفكرة المطروحة، مما يجعل المعارضة في صف الحاشية، ويخلق من هذا الجو تأييداً فعليّا لكل ما تريده الجهات الرسميّة، ويمكننا اعتبار هذه الظّاهرة الطّابع الحقيقي لممارسة الحياة السّياسيّة في الشّارع الأردني.
منهج ثابت :
عملت الجهات الرسميّة الأردنية عبر الأيّام على التّمهيد لكل جديد تريد تمريره من خلال نشر شائعات مجهولة المنطلق مجهولة المصدر، فصارت إثارة زوابعَ وإشاعات حول أي قضية تريد الجهات الرسمية تمريرها منهجا مستمراً ومعلنا لكنه للآن لا يؤخذ بعين الاعتبار عند المواطن، أما الخطوة التالية للإشاعات فهي النّفي ورّفْض كل هذه الشّائعات، وأخيرا الخروج للعلن بعد التخدير التام وحالة التبلد الشعبي، فتطلّ علينا بمشاريعها التي كانت بين الإشاعة والنّفيّ و قد صارت أمرا واقعا والأمثلة قائمتها طويلة في هذا الشأن من معاهدات قديمة وجديدة، والذي عبر الشعب الأردني عن رفضه لأي اتفاق مع العدو، واحتقنت الحالة الشعبية في الشارع الأردني، فأطلت علينا الحكومة بنفي الشائعات ثم بعد أن هدأ الشارع واعتاد الناس حديث المعاهدات والاتفاقيات مع العدو، وجدنا اتفاقيات السلام تفرد على الطاولة واحدة تلو الأخرى، حينها حاولت أطراف المعارضة استثارة الشارع الأردني لكن دون جدوى، فقد استهلك الشارع هذه الظاهرة وتحدث عنها كثيرا حتى أصابه التعب، ووصل إلى الاعتياد، ليصبح هذا الملف مستساغاً في آذان أبناء الشارع الأردني للآن.
تحوّل ممنهج:
عندما كنّا صغارا كانت لنا تربية تختلف قليلا عن الأجيال الجديدة، كنّا نتسابق بِعَدِّ عواصم العرب ،وشعارنا ” كلنا قلب واحد” وآمالنا وطموحاتنا ” أن نكون دولة واحدة”، وكنّا ننتمي إلى الحق بعيدا عن أي اعتبار، وكان الحسّ الإسلامي والعروبي يجمعنا، تربينا على أن نكون مع كل قضايا الوطن العربي نألم بألم أبناء وطننا العربي الكبير، ونحفل باحتفالاتهم، وكانت علاقتنا مع الوطن مختلفة ففي كل صباح ننشد للعلم خافق في المعالي والمنى، ثم نغني بلاد العرب أوطاني، وكانت إذاعتنا الصباحية رافداً لثقافة التجمع وموطناً من مواطن إحياء هذه القضايا، وكانت لنا أحلام وأحلام وكان للوطن هوية وصورة في أذهاننا تذوب فيها الصور وتتلاشى أمامها الشخصيات.
لكنّ الأيام التي بدأت تدفع فينا روح الشباب حملت تحولات كثيرة، فقد تراجعت الأنظمة عن شعارات الوحدة، وانحسرت الشعارات الرافضة للإقليمية، ونزلت الأعلام من ساحاتنا وبقي في كل قطر علم، وبدأت قضاينا الكبرى تتضاءل حتى اقتصر وجودها على مشاعرنا القلبيّة وآلامها في واقعنا، كان لنا في ما مضى قضيتنا الفلسطينية والتي هي تراجيديا العالم الإسلامي عموما والوطن العربي خصوصا، ومع كل يوم يمر تراجع عدد المتحدثين عن القضية الفلسطينية، وحُذفت القضية الفلسطينينة من المنهاج الدراسي، حتى صارت القضية الفلسطينية تخص فلسطين، ثم تكاثرت قضايا الوطن العربي، وتكاثرت الجراح.
إنّ ما وصلنا إليه من حاله قائمة من تراجع قضايا الأمّة في نفوس الأجيال، وجود قضايا شخصيّة لكل فرد في مجتمعنا على حدة، وتكاثر قضايا الجبهة الداخليّة يعبّر عن نتائج لمنهج مرسوم يعتمد على نقاط عمياء في تاريخ الوطن، فالأجيال تتعثر في كل زاوية بين فقر وفساد وبطالة وتضخم إقتصادي، ولم تعد معاجم المصطلحات قادرة على مجاراة الإشكالات التي يواجهها أبناء الأردن والتي نتجت عن نقاط عمياء مرّت دون أن يلتفت إليها أحد من مكونات شعبنا في الأردن، هذا ما يدفعنا للقول إن هذا التحول هو تحوّل ممنهج ناتج عن قضايا مرّت وتشريعات أقرّت كانت تمثل نقاط عمياء أفقدت الوطن اطمئنانه وأشغلت المواطن عن قضايا الوطن.
نقطّة متوهّجة
مررنا بمنحنيات حسّاسة، كان اللافت للنظر فيها غياب الوطن عن كل الحسابات ووجود جهات لها أهداف غير معلنة تلهث وراء تحقيقها، ومن أكثر المنحنيات خطورة في تاريخ الأردن منحنى الوطن البديل، ومع امتداد رفض الأردن لمبدأ الوطن البديل بدأت هذه الجهات بإنتاج مصطلحات جديدة تخفف من حدة الرفض الموجود، وغايتها التستر وراء هذه المصطلحات والتي تحمل المضمون المرفوض ذاته لكنه بمسميات جديدة وتمثل تطبيقا عمليا لمبدأ الوطن البديل الذي يرفضه كلّ سوي، ولمسايرة هذه الموجة الرافضة أطل علينا مصطلح جديد يتضمن صيغة الوطن البديل مع القليل من المكياجات ( الهوية الوطنية الجامعة ) فالآن الشارع الأردني الذي يناقش مصطلح الهوية الجامعة الذي يجسد حقيقة الوطن البديل، والذي بدوره يفرض علينا أسئلة حتمية لماذا جاء المصطلح؟ ومن صاحبه؟ ومن المستفيد منه؟ وعلى حساب من؟
لا أعتقد أن أحدا يحتاج إلى توضيح الاجابات فلربما الإجابات محفوظة قبل تكوين السؤال. وإن حضور مثل هذه المصطلحات يعني وجود إصرار على إنفاذ مشروع الوطن البديل الذي هو إجهاز على القضية الفلسطينية، وانهيار كليّ للأردن، ربما يقبل بهذه الحلول من كان ينظر إلى الوطن على أنه كاش مقبوض .
الأردن وفلسطين في دائرة اللهب
لا يخفى على أحد الشراكة العميقة بين الأردن وفلسطين في المصير والمسير، وكذلك تشاركهما في كونهما مرمى الهدف، فكل الحلول المطروحة لحل القضية الفلسطينية كلها على حساب الأردن، وطمس هويته الحقيقية وكذلك هو دفن لقضية فلسطين وموتها في نفوس الأجيال.
إن الحديث في هذا المقام هدفه الأول أن تكون الحلول حلولا حقيقية تصب في مصلحة القضية الفلسطينية ومكوناتها من أرض محتلة وشعب مضطهد وشهداء افتدوا قضيتهم بأرواحهم وأسرى قدموا شبابهم ليحيا وطنهم، ومتعلقة بالمهجرين الذين أخرجوا من أرضهم، أما الأردن فإن طمس هويته يعني انتهاك آخر ما بقي للشعب الأردني، لأن المواطن الأردني المسحوق لم يبق له شيء سوى هويته المهددة الآن بالضياع والاندثار، ولم يبق له إلا أطلال وطن يتمسك به، متناسيا ما يجري من أحداث يومية وحريصا على ضبط بوصلة العمل داخل الأردن للخروج من الوضع الراهن.
.

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى