موقف عمومي

موقف عمومي
د. هاشم غرايبه

يتوهم بعض الناس أن القدرات العقلية على استيعاب المهارات والمعارف محدودة، فيسألون مثلا مهندسا متبحرا في الفلسفة أو طبيبا متعمقا في علوم الدين: لماذا لا تبقى في تخصصك وتترك العلوم الأخرى لأهلها، فهم أعرف بها منك؟.
قد يستغرب البعض عندما يرون أن من لديهم مهارات متعددة، كيف يمكن أن يبدعوا فيها جميعاً.
ولم لا!؟، ففي تلاميذ الصف الواحد، تجد أن المتفوق فيهم، متفوقا في كافة المباحث، ولا تنتقص قدراته المميزة في حل المسائل الرياضية من قدراته اللغوية أو حتى جمال خطه، ولا من سرعة استيعابه للتاريخ أو الكيمياء أو غيرهما.
هنالك موهبة هي أم المواهب وهي الذكاء، وهي القدرة على الفهم السريع واستعمال المهارات بكفاءة تامة، كما أن القدرات العقلية للبشر مثل القدرات الجسدية تعظم بالإستعمال والرياضة والتدريب، ولا تنتقص من مهارة لاعب كرة القدم أن يكون ماهرا في الجري أو في القفز أو السباحة، يستطيع القيام بكل ذلك وأكثر، لكن على حساب وقته وراحته.
لو سألت طفلا في السادسة من عمره: من هو الأقوى الأسد أم الفيل، على الأغلب سيقول: الفيل، ولو سألته مرة أخرى السؤال نفسه لكن بعكس الترتيب فتقول الفيل أم الأسد؟، سيرد فورا: الأسد، ناسيا أنه قد أجاب بالعكس قبل قليل.
تعليل ذلك أن مخزون ذاكرته ضحل، وما زال استرجاع المعلومة لديه ضعيفا، لذا فيجيب حسب آخر معلومة علقت بذاكرته.
منذ الولادة، يراكم الإنسان معارفه بشكل دائم طوال عمره بالتعلم والتجربة، ويرتب المعلومات في ذاكرته فطريا لكن بأسلوبه الخاص، هذا الأسلوب هو فطري أيضا أساسا (موهبة)، وعليه فذلك متباين بين الأفراد، وقد تتعزز هذه الموهبة أيضا بوسائل التعلم والتدريب المكتسبة.
الأسلوب التلقائي في تخزين المعلومة يتمثل بربطها بمفتاح، والذي يكون صورة أو صوتا أو رائحة مألوفة سابقا، ولا يمكن أن تختزن المعلومة الجديدة إلا إن فهمها العقل وعرف مدلولها، وعندها يبحث لها عن مفتاح يربطها فيه.
لو تخيلنا أن التخزين في الذاكرة يشبه ترتيب الملفات في غرفة الأرشيف، من الصعب أن تستخرج ملفا إذا لم يكن مفهرسا ومرتبا بطريقة معينة، هذا لو كانت الملفات محددة بنوع واحد فقط، ولنقل بسجلات الأراضي ومالكيها في غرفة واحدة، فكيف لو كان المخزن به مليارات المعلومات، تتوزع على آلاف الأنواع ومخزنة في عشرات الغرف .. أي ما يمثله العقل!
سيكون استخراج المعلومة في غاية الصعوبة بدون تلك المفاتيح، والتي تكون مرتبة على سطح الذاكرة، وعندما يتطلب الأمر استخراج معلومة يختار العقل المفتاح الصحيح، والذي يُخرج الملف الصحيح، ويستغرق كل ذلك جزءا بسيطاً من الثانية، وكلما كانت المفاتيح واضحة مميزة ومرتبة في مواضعها كانت الإستجابة أسرع، وهذا ما يسمى سرعة البديهة والتي هي موهبة يتباين التمكن منها بين الأفراد، وترتبط بها عضويا موهبة أخرى هي دقة الملاحظة، والتي هي ملكة عقلية مهمتها التمييز بين الأشياء المتشابه ظاهريا مع وجود اختلاف ضئيل وبدقة متناهية مهما تقاربت وتماثلت.
في المقابل فإن بطء الإستيعاب أو صعوبة الحفظ يرتبطان الى درجة كبيرة مع تدني القدرات العقلية للفرد أساساً، ومع قلة الرياضة العقلية المتمثلة في تشغيل ملكات العقل الإدراكية والتحليلية والإستنباطية ثانوياً، فينجم خمول عام يشبه الترهل الذي يصيب الجسد عند قلة الحركة والسكون، فعندما يتوقف توريد المعلومات الى الذكرة أو يقل قليلا، وعندما تقل طلبات استخراج المعلومات، (تصدأ) المفاتيح وتبهت الألوان والرموز الدالة عليها، فيصبح استخراج المعلومة أصعب وتنمحي المعلومات المسجلة على الملفات التي لا تستعمل لفترة طويلة، فهنالك ممحاة ذاتية في الدماغ هي النسيان، وهي تراقب الملفات المهملة والتي (يعلوها الغبار) من قلة فتحها، فتقوم بمحوها تماما، أو تحولها الى برميل الإتلاف، وهذا مستودع مؤقت للمعلومات الهامة لإعطاء المرء فرصة لاستعادته الى الرفوف إن أحس بأهميته، ولهذا تجد شخصا يحك رأسه ليتذكر شخصا لم يره منذ فترة طويلة قائلاً له: ذكرني بك!، فيحكي له حادثة مميزة، فيضرب جبينه صائحا: الآن تذكرتك أنت فلان، ثم يسرد له معلومات كثيرة يثبت فيها له أنه لم ينسه.. كانت الحادثة التي ذكّرته بمثابة مفتاح آخر مرتبط بالأساسي والذي بعد أن وجده واستخرجه من البرميل استعاد كل المعلومات التي فيه.
من حكمة الله أن جعل هذه الملكات بين الناس متباينة…وإلا كان الناس كلهم قادة أو علماء أو فلاسفة مفكرين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى