من جماليات فن القول العربي ” ووجدَكَ ضالًّا فهدَى “

من جماليات فن القول العربي
” ووجدَكَ ضالًّا فهدَى ”
أد. خليل الرفوع

           هذه الآية السابعة من سورة الضحى، وجاءت ضمن فضل الله على الرسول صلى الله عليه وسلم، ولقد ذهب المفسرون مذاهبَ تأويليةً بعيدًا عن السياق البياني للآيات، ومن تلك التأويلات : أنه عليه السلام كان غافلا عن أمر النبوة، وأن الله هداه إلى الهجرة أو للقبلة أو للقرآن ، ووجده ضائعا في قومه أو ضالا في شعاب مكة أو في الشام أو أنه ضل عن التجارة أو عن بيته قبل النبوة أو كان في حَيرة أو كان في قوم ضُلال على دينهم أربعين سنةً أو كان كافرًا في أول الأمر ثم هداه الله…. ، وهي تفسيرات تتضاد مع مقام النبوة، فالرسل ” معصومون من قبل النبوة وبعدها من الكبائر والصغائر الشائنة والكفر والجهل بالصانع” كما يرى الزمخشري في تفسير الكشاف، ولعل أكثر المفسرين فهمًا للبيان القرآني سيد قطب لحسِّهِ النقدي والشعري اللذين احترفهما، يقول في تفسير الآية في كتابه (في ظلال القرآن الكريم) مقتربا من التأويل الحقيقي ” لقد نشأتَ في جاهلية مضطربة التصورات فلم تطمئنَّ روحُكَ إليها ولكنك لم تجد لك طريقًا واضحا مطمئنا…… ثم هداك إلى الله بالأمر الذي أوحى به إليك والمنهج الذي يصلك به”.
لقد اتبع أكثر المفسرين تفسير الآيات بآيات أخرَ بحجة تشابه المفردات وكان ذلك قصورٌ بيَّنٌ؛ وكان الأولى البحث في المفردة ضمن سياقها، فأي لفظ يحدد دلالتَه السياقانِ التاريخيُّ واللغويُّ معًا اعتمادًا على ما قرّ في الذاكرة الفكرية الألسنية الجامعة.
        لم يوفق المفسرون وأكثرهم ذوو نزعة تأريخية صوفية في تأويل ” ضالا” لأنهم لم يعيشوا جماليًّا في دائرة البيان شعرا أو نثرا بل ظلوا ينقلون عن بعضهم بعضا دون اجتهاد في التأويل؛ لذا ظل المعنى المعجمي مسيطرًا ومُوجِّهًا، وكان لبعدهم عن الشعر الجاهلي – الذي سبق تنزُّلِ القرآن – سبب رئيسي في البعد عن التأويل البياني أو الانطباعي على الأقل، فالتفسير دون الاهتداء بذلك الشعر  هو بتر له عن جذوره الدلالية المُعَمَّرة ،  يقول أوس بن حجر وهو من أقدم الشعراء الجاهليين وأستاذ الشاعر الكبير زهير بن أبي سلمى :
إذا ناقةٌ شُدَّتْ برَحْلٍ ونُمْرُقٍ
إلى حَكَمٍ بعدي فضلَّ ضلالُها
فالناقة في هذا البيت تُعَدُّ وتُجَهَّزُ لتوصلَ صاحبَها إلى الحَكَم لكنها تضل في الطريق، بل يضلُّ ضلالُها فلا تصل إلى بغيتها، ففي البيت إشارة إلى إعداد الناقة إعدادًا محكمًا يعقبه البحث دون وصول للهدف، وهذا ينسجم معنًى وتاريخًا مع اللقب الذي أطلقته الطبقة الأدبية على الشاعر الجاهلي امرئ القيس، وهو ” الملك الضِّلِّيل” لأنه استعد للأخذ بثأر أبيه الملك، وظل يبحث في القبائل عمن ينصره بعد أن تجرأت قبيلة بني أسد على قتل أبيه، وهذا المعنى الدلالي يتوافق مع حالة الرسول عليه السلام قبل البعثة ، فقد روت السيرة أنه كان يختلفُ إلى غار حراء متأملا  ومفكرا بعد أن كان يعد نفسه للمكوث فيه حينا من الزمن، إنها حالة الاستعداد النفسي والجسدي والعقلي للبحث عن الحقيقة، وهذا المعنى الدلالي الدقيق للفظة ” ضالا “. فلم يُعْرَفْ عن الرسول عليه السلام أنه مارس أي سلوك وثتي أو ديني أو تقليدي قبلي منحرف قبل بعثته بل كان دائم التدبر والتفكر، وهذان يتماهيان مع البحث عن حقيقة الوجود وخالقه، وفي النقطة النهائية من ذلك البحث العقلي الموصول كانت الهداية.
        ولعل هذه الآية إحدى آيات نعم الله على الرسول بعد النبوة ” ووجدكَ ضالا فهدى” فهي تقع بين آيتين : الأولى الإيواء بعد اليتم، والثانية الغنى بعد الفقر، وهذه الآيات الثلاث تتوازى دلاليا مع آيات ثلاث تعقبها مباشرة ، قد توسطتها آية ” وأما السائل فلا تنهر”، وهذه الآية تتواشجُ مع آية  ” ووجدك ضالا فهدى”، وهو تواشج دلالي، فحينما كان الرسول يبحث عن الحقيقة ويتساءل عقليا ووجوديا كانت الإجابة من الله الهداية، لذا على الرسول ألَّا ينهرَ أي سائل وقد كانت الأسئلة ممن حوله كثيرةً، مُعَبَّرًا عنها قرآنيًّا بكلمتين مكررتين ( يسألونك، يسألك)، فالسائل الذي يطلبُ اللهُ من رسوله ألا ينهرَه هو المستعلمُ الباحث عن الحقيقة، وليس الباحثَ عن المال كما يذهب إلى ذلك المفسرون.
      لم يكُ محمد عليه الصلاة والسلام بِدَعًا من الرسل في حالته تلك فقد نبأنا القرآن عن بعض الرسل الذين ضلوا ( اجتهدوا حركةً وفكرًا  بحثا عن الحق) حتى هداهم الله إلى الإسلام مثل : إبراهيم ولوط اللذين هاجر كلٌ منهما إلى الله طلبًا للهداية، فبعد أن نجاه الله من كيد قومه قال إبراهيم ” إني ذاهبٌ إلى ربي سيهدين” الصافات ٩٩،أما لوط فقد قال” إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم”العنكبوت ٢٦ ، وموسى الذي عبر لفرعون عن قتله القبطي – بعد أن وكزه – بأنَّ ما فعله كان قبل هدايته أيام بحثه عن سواء السبيل، ” قال فعلتُها إذًا وأنا من الضالين ” الشعراء، ٢٠.
فالضلال قبل الإسلام كان حركة فكرية وجسدية دائبتين بحثا عن مبتدأِ الخط الموصل للهداية وعدم الإيمان بالواقع الانحرافي المُعَاين، وقد كان ذلك كذلك، وأما الزلل عن الطريق بعد الهداية فهو الضلال الحقيقي بمعناه الديني أو لنقل الكفر المبين “قلْ إني نُهِيْتُ أن أعبدَ الذينَ تدعونَ من دونِ اللهِ قلْ لا أتبعُ أهواءَكم قدْ ضللتُ إذًا وما أنا منَ المهتدين” الأنعام، ٥٦. ويأتي التأكيد القرآني بنفي الضلال بعد الهداية عقب قسم الله بالنجم إذا هوى ” ما ضلَّ صاحبُكم وما غوى” النجم، ٢.
           وبعد، فقد كان الرسول عليه السلام قبل أن يهديه اللهُ ضالًّا، أي كان دائم البحث عن حقيقة الوجود وخالقه بعد أن أعدّ إلى ذلك ما استطاع من عزم وصبر وتدبر ونظَر ، ولا تنحرف لفظة( ضالا ) ضمن سياقها في سورة الضحى إلى أي دلالة يحملها اللفظ في سياقات أخرَ كما ذهب إلى ذلك بعض المفسرين الذين استظلوا بالقَصَصِ الوعظي وأباطيل الروايات التي تتضاد مع المنطق العقلي وبنية الدلالة اللغوية وسيرة الرسول عليه الصلاة والسلام قبل البعثة.
أد. خليل الرفوع

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى