من الطالب السجّان إلی المُعلمِ النزيل / شبلي العجارمة

من الطالب السجّان إلی المُعلمِ النزيل

معلمي الفاضل:

أرجوك أن تعذرني اليوم ،فأنت الوحيد في وطني هذا الذي طالما قد کذبتُ عليه وعذرني واستهبلته منذ نعومة أظفاري لکنك الشخص الطيب الذي افترض فيّ البراءة والعفوية، ولکن لقاءنا اليوم يا معلمي سيختلف تماماً عن کل لقاءاتنا السابقة، بالأمس کنت أنت الآمر الناهي وصاحب صولجان الخشب في غرفة ضيقة لا تستطيع الجلوس فيها ولا تملك أن تذب غبار الطباشير عن وجهك وأنفك ، لکنك الآن لا تملك من أمرك شيءُُ سوی التوسل بعينيك وحسن ظنك بتلميذك وأملك الذي خاب في کل تلاميذك الذين يملکون کل قراراتك اليوم، فقد خاب ظنك بتلميذك رٸيس الوزراء الذي کان في نفس الغرفة الرباعية الأمتار ذات يومٍ إبّانِ زمنك الطيب ومسيرتك الحافلة بالعطاء، کما خاب الظن به حين کان وزيراً لك، واليوم أيضاً فقد خاب ظنك بتلميذك وزير التربية والتعليم الذي انضم إلی قافلة خيبات الأمل، وأرجوك يا معلمي أن لا تصدمني بأن تقول لي أن وزير الداخلية ومدير الأمن العام وقاٸد قوات الدرك ليسوا تلاميذاً لك أيضاً ولم يکونوا طلاباً لمعلمٍ ذات يوم، ولا تحاول أن تتهرب من سٶالي ،أرجوك أيها المعلم الطيب لا تخدع نفسك أکثر مما ينبغي، فهٶلاء لم يتبوأوا هذه الأمکنة لولا غبار طبشورك وفحيح عصاك اللوزية وزمهرير بربيشك الرمادي وصفعات حزامك الجلدي.
هٶلاء هم من صوروك لنا اليوم بأنك عدوُُ للوطن،وأنك متآمرُُ مع قوی خارجية ستعبث بأمن الوطن، هٶلاء هم من أصدروا کل أوامرهم لنا ضدك ،هم من جحفل القوات وأغلق الطرقات وحبس الهواء وحاول أن يخنق عمان متذرعاً بجريرتك وسوء نواياك ،هٶلاء هم من أمروني أن ألقي غاز مسيل الدموع علی عينيك کي تترنح وتقع في قبضتي ،هم وحدهم من أبلغني أن لا أرحمك اليوم، لأن الوطن مسألةُ حسمٍ لا مفاوضات فيها ولا مکان للعواطف هنا ،وأبلغوني أن کل بروتوکولات الاحترام يجب أن تسقط حتی لو کنت أنت أستاذي الذي علمني، قالوا لي بأن رکلةً واحدة لقفاك لن تقتلك،وقالوا لي أن غاز مسيل الدموع هو فقط ليحد من مخططك اللاوطني،کما قالوا لي أن رفشك بالحذاء العسکري هو درسُُ في الوطنية نفس ذاك الدرس الذي طالما صدحت به علي وعلی زملاٸي التلاميذ من دولة الرٸيس للوزير ولمدير الأمن والدرك ولکنه اليوم درسُُ بالشقلوب، بلغوني أن قذفك في الزنزانة المتحرکة هو رعشة عصا ورسالة تخويفٍ لك وللمزيد من المعلمين والمعلمات کي نحبط مٶامرتکم علی وطن الحيتان وبسکويت الأقوياء.
نعم يا معلمي ،أنا هو رجل الأمن والدرکي نفسه الذي کان إبّان ارتجافة الوطن في مرحلة الربيع العربي يقف علی دوار الداخلية، حين أمروني أن أوزع الحلوی والعصاٸر والماء علی المحتجين وبالذات حين کان بينهم يندس الزعران والخارجين عن القانون من باب تطبيق وجه الأمن الناعم ، أنا هو الذي يحرس بيوت الغرباء في عبدون ودير غبار أولٸك الذين نهبوا خيرات أوطانهم ،نعم أنا الذي أتمسمر علی الدواوير وأتجمد وأنا أٶدي التحية لنجوم إغراقنا في وحل البنك الدولي وأبطال الخصخصة الذين باعوا حتی الإسفلت الذي أقف عليه تحت سعير الصيف وتبجحوا بالتقشف عليّ وحدي بتوفيرهم بناء المظلة التي تقيني من حر الشمس وزخات المطر.
أعرف يا معلمي أن غاز مسيل الدموع ليس کمحرمة جيبك التي مسحت بها دمعي وأنا أبکي ذات يومٍ في الصف من التهاب اللوزتين، وأعرف أيضاً أن الأصفاد ليست کالربع دينار الذي أعطيتنيه لأشتري به من مقصف المدرسة حين کنت أقف بعيداً وأنظر لزملاٸي وهم يشترون وأنا بلا مصروفٍ يومي للجيب بسبب فقر أهلي وعوزهم ، أعرف أن رفشة بسطاري التي تحمل أقذع المعاني ليست کالکف الذي کنت تصفعنيه وليست کالحزام الذي کنت تجلدني به وليس کالعصا التي کنت تضربني بها خوفاً علی مستقبلي ووقفتي هذه المتخصصة بتلقي الأوامر فحسب.
معلمي الحبيب، لماذا تسيء الظن بي وأنت تعرف أني الحلقة الأضعف في کل هذا الصخب، وأنني التلميذ الوحيد الذي لم يکن مجتهداً يوماً ما ولم أبحث عن التفوق،فلماذا تترك کل طلابك النجباء والمتفوقين الذي يقودون اليوم هذا الوطن بإنسانه وتتشبث في ماء وجهي ووفرة حياٸي وحسن خلقي وبرستيج تصرفي؟.
معلمي لا أملك من فسحة الأوامر لك سوی أن أتركك تنظر من هذه النافذة الصغيرة للزنزانة المتحرکة وأنت في رحلتك إلی داخل أسوار السجن وغياهب المهجع وجدران الظلم والظلمات وأناولك زجاجة ماٸي الحارة وسيجارةً رخيصة الثمن تنفث بها کل خيباتك الصغار وصدمات آمالك الکبار حين خاب ظنك في الجميع وحتی فيَّ أنا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى