مبتدأ وخبر

مبتدأ وخبر
د. هاشم غرايبه

المبتدأ: لطالما اعتُبِر “أبو صلاح” شخصية هامة في القرية، إذ هو الشخص الوحيد الذي يُعتبر أن له إصبعا في الدولة، رغم أنه ليس الموظف الوحيد فهنالك مختار ومعلمون وآذن المدرسة وطوافو الأحراش (حراس الغابة الحرجية)، كل هؤلاء موظفون في الدولة يتقاضون رواتب شهرية، لكن أبا صلاح يعمل بوظيفة “حاووط”، أي هو الذي يبلغ الأهالي بمذكرات الجلب بحق المطلوبين للسلطة المخالفين لتعليماتها، لذلك فتوجهه الى منزل في القرية صباحا نذير شؤم، ورؤيته في الحارة مدعاة لحوقلة الجيران وقراءة المعوذات.
كان كثيرون ومنهم زوجته وأولاده يعتقدون أن له كلمة نافذة عند المسؤولين، كونه على اتصال مع السلطة المرعبة المتمثلة بالقائمقامية، لذلك كانوا يستَجْدون منه المساعدة عند إجراء أية معاملة أو تقديم طلب توظيف أو نقل.
ولما كان يطيب لأبي صلاح هذا الوهم، فلم يكن يكذب ظنهم، فيرد بعبارات مقتضبة من قبيل: “إن شاء الله بيصير خير”، أو “تانشوف شو بيصير معنا”، لكنه لم يجرؤ مرة أن يبلغ الطلب الى المسؤولين، فهو يعلم منزلته لديهم، ولا يتوقع منهم غير الزجر والتقريع.
ورغم أنهم لم يتحقق لهم فيه رجاء يوما، إلا أن الأهالي ظلوا على وهمهم فيه، وهو من طرفه ظل يؤملهم.
الخبر: أنظمة الحكم العربية فريدة زمانها، لا مثيل لها في عالم اليوم، فالزعيم فيها فوق الدستور والسلطات الثلاث ملك يمينه، لذا فهو الذي يختار الحكومات والإدارات العليا في الدولة، مستعينا بمعلومات من الجهات المخابراتية، لكي تكون هذه الخيارات وفق معادلة ثابتة، ومن فئة معينة.
المعادلة محكومة بتقاطعات وحسابات تحقق تأليف القلوب حول الزعيم المفدى، واستقرار نظام الحكم، وليست وفق الكفاءة والاقتدار، أما الفئة التي يتم انتقاء قياديي الدولة هؤلاء منها، فهي طبقة سياسية، مسبقة الصنع، حيث يتلقون تعليمهم وتدريبهم في معاهد الغرب، ويتم تأهيلهم وفق منهجهم الليبرالي، لتحقق متطلباته ومعاييره، والتي أساسها عدم المس بمصالحه في بلادها.
الطريف أن هذه الأنظمة تتبع المنهج ذاته سواء كانت ملكية أو جمهورية أو أميرية، مما يدل على أنها متتلمذة على شيخ واحد.
وحتى لو كان فيها برلمان ينتخب أو مجلس شورى يعين، فالمخرجات لهذه المجالس التي يفترض فيها أن تكون ممثلة للشعب ورقيبة على أداء السلطة واحدا، أي من العلبة نفسها.
لو أخذنا الأردن نموذجا لهذه الحالة، فقد تم وضع قوانين انتخابية منذ عام 1993 سميت قانون الصوت الواحد، لكي تنتج نوابا من فئة الزعامات العشائرية والمقاولين، التي لا تحمل برنامجا سياسيا ولا تمتلك منهجا رقابيا، بل قصارى جهدها تحقيق منافع فئوية لمنطقتها الإنتخابية، لكي تضمن تجديد انتخابها في المرات القادمة، فتظل منتفعة من أعطيات الدولة لها ثمنا لتغاضيها عن واجبها الرقابي، وتمرير صفقات السكوت عن الفساد المحصن.
بالطبع سوف يفلت عدد قليل من المعارضين ويدخلوا المجلس النيابي، لكن هؤلاء يبقون مجرد صراخ في البرية لأن الأغلبية بيد الدولة، وفي لحظة التصويت يصل “الألو” الى نواب الدولة، لكي يجهض أي مشروع قرار ينتصر للوطن.
هذا اليوم سوف يطرح من قبل هؤلاء المعارضين مشروع قرار يمنع شراء الغاز الذي يسرقه الكيان اللقيط العدو من فلسطين، ويبدو أنه سيحقق الأغلبية، وأعتقد أن الدولة على الأغلب لن تلجأ الى إجهاضه بـالـ “ألو”، وذلك لتنفيس الإحتقان الشعبي المتفاقم ضد هذه الإتفاقية، بل الى تفريغه من مضمونه بالمماطلة في إقراره، مثلما ماطلت الدولة في إعلان تفاصيل الصفقة المشبوهة ست سنوات كاملة، فتآمرت الحكومات الثلاث الأخيرة بعدم عرض الإتفاقية على مجلس النواب وفق ما ينص عليه الدستور، وتآمر معها المجلسان الأخيران بالسكوت عن هذا الفعل المشين طوال الفترة الماضية، رغم أنه كان بيده إصدار قانون منذ زمن بعيد وقبل أن يبدأ تنفيذ الخط الناقل، يمنع رهن توليد الطاقة بيد العدو، مثلما رهنت معاهدة وادي عربة المشؤومة مياه الأردن بيده قبلاً.
لقد تبين في الأردن منذ زمن طويل عقم الرهان على الحكومات المتعاقبة لأنها جميعا من العلبة ذاتها، ولا على مجالس نيابية انتجها قانون الصوت الواحد، فهما لا يملكان من أمرهما شيئا، ورغم ذلك مازال الأردنيون واهمين في صلاحيات “الحاووط”، فهي محددة في أن ينفذ ما يملى عليه…وليس أن يطالب.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى