ما يكتبه المهاجِر / محمد حسين الضامن

ما يكتبه المهاجِر

لا يستطيع المنفيُّ عن مكانٍ أحبّه أن يعود إليه من خلال التأمّل حتّى وإن حاول ذلك لحظة الغروب، وكذلك المنفيُّ عن قلبٍ كان مُلكَه لا يستطيع أن يعاود امتلاكه مرّةً أخرى حتّى وإن حاول ذلك قبل النوم، ولكنّه إن لجأ إلى اللغة فحتمًا سيستطيع فعلَ ذلك بسهولةٍ من العبارة وبمراوغةٍ منه من خلال الاستعارة وما يجاريها من حيلٍ يستعملها الكاتب الماهر في رسم ما يرى.

وهكذا، فوحدها اللغة تقدرُ على جرِّ الماضي البعيد إلى الحاضر وترويضِه على العيش فيه، ووحدها اللغة تستطيع ترويض صاحبها على الغطس في الماضي لتدوينه في نصٍّ يحفظُه من الضياع، نصٍّ يستمدّ جماله من كثرة الجِراح الّتي أسكنها الكاتب الماهر المنفيُّ فيه.

وهكذا، فلو حاولنا أن نعرّف اللغة لقلنا:

مقالات ذات صلة

– هي الأداة الّتي تجعل اللاممكن ممكنًا في زمنٍ ومكانٍ بات فيهما الممكن لاممكنًا.

– هي الحبال القوّية الّتي تجرّ الرّوح من الماضي إلى موت الجسد الحاضر فتحييه من جديد.

– هي سلاح السّجين في سجون الحنين إلى الحياة البعيدة.

– هي درعُ المنفيِّ في المنفى من نظرات الغرباء العفويّة الّتي بات اليوم يراها مقصودة.

– هي صوت نايِ العربيِّ في المنفى، المنفى الّذي لا يحيا فيه ما يعيده إلى ما كان في المكان الّذي كان فيه، المكان الّذي بات اليوم يعيش في المنفيّ بين ضلوعه وكلّ أجزائه، في حين أن المنفيّ كان يعيش فيه سابقًا.

أمّا الكلمات، فهي للمنفيِّ الماهر القادر على قيادتها تكون مركبته في العودة إلى ذكرياته المختلفة، ذكرياته الّتي باتت اليوم ذكرى واحدة تمامًا كجوريةٍ تعدّدت ألوانُها ولكنّها بقيت في نهاية الأمر جورية.

جوريةٍ كانت ترضعها وتشرف على تربيتها شمس طفولته، جوريةٍ رضعت ذكرياته ودوّنتها باللغة العالمية لغة الألوان وأصوات البلابل، فباتت الآن كلّ وردة فيها ذكرى جميلة وإن كانت بعضها تحفظ ذكرى من ذكرياته القاسية، فربّما بات اليوم يراها ذكرى جميلة من فرط قساوة اللون والصّوت في حاضره، وربما هو لا يحنّ لأيّ جرحٍ قاسٍ.

وهكذا يعود المنفيُّ من المنفى إلى المكان الأوّل، المكان الّذي عاش فيه متعة الملذات الأولى، المكان الّذي رتّب فيه ذكرياته لتصبح الآن في المنفى ممتلئةً بالفوضى وضحكات الغرباء العفويّة.

#محمد_حسين_الضامن

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى