ما بعد صدمة تفجيرات عمان / سهير جرادات

ما بعد صدمة تفجيرات عمان
سهير جرادات

على مدار أيام لم يهدأ هاتفي النقال ، وأنا أتلقى المكالمات من الزملاء الصحفيين أو الجهات الراغبة في التجهيز لفعاليات بمناسبة ذكرى مرور عقد من الزمان على تفجيرات فنادق عمان .

طالبني المتصلون بعناوين وأرقام هواتف الناجين من التفجيرات الارهابية،لعلمهم بحرصي على علاقات من المعرفة والصداقة مع عدد من المصابين الناجين أو مع أهالي الضحايا ، والتزامي بالكتابة عن قصصهم ومعاناتهم ومتابعة حالاتهم والأبعاد النفسية التي خلفتها لهم هذا الحادثة، التي هزت عاصمتنا الحبيبة؛ حينما دوت في تمام الساعة التاسعة والنصف من مساء يوم الاربعاء صوت تفجيرات استهدفت ثلاثة فنادق ، سقط فيها ستون شهيدا وأكثر من مائتي مصاب.

وبالقدر ذاته من الاتصالات التي تلقيتها ، استقبلت أيضا مكالمات من قبل الناجين وذوي الشهداء ،الذين لم يعترضوا على إحياء ذكرى التفجيرات كونها معاناة وطن وشعب ، لكنهم ينتقدون الاهتمام بالجانب الاعلامي فقط من أجل كسب التعاطف الشعبي والتأييد للمواقف الرافضة للإرهاب، الذي لا يقبله أي عقل أو دين،معتبرين أن من يعتقد أن الناجبن لا يتذكرون هذه الحادثة إلا في التاسع من تشرين الثاني من كل عام، مخطيء، لإن ذكرى الحادثة تعيش معهم ، وترافقهم كما بقايا الشظايا، التي ما زالت تنتشر في أجسادهم،وتتخذ منها مسكنا لن تغادره بسهولة، وستبقى ترافقهم حتى رحلتهم الأخيرة إلى القبر، عندها ستنقطع كوابيس الحادثة وتغيب عن لياليهم إلى الأبد.

هل يخطر في بالكم أن مجرد سماع صوت سيارات الشرطة أو تلك الصافرات التي تصدرعن سيارات الإسعاف أو المطافئ ، أو سماعها عن بعد، كفيلة باثارة مشاعرالألم والحزن بداخل كل من عاش مأساة التفجيرات؟ لانها تعود بالذاكرة الى أدق التفاصيل لما حدث لحظة التفجير، وما حصل من معاناة وألم عبر أشهر متواصلة،عدا عن التنقل بين غرف العمليات ، وقضاء أوقات طويلة بين أقسام المستشفيات طريح فراش المرض ، أو حبيس كرسي المقعدين ، وتذكر الرحلات العلاجية المتعددة في الخارج،كما تشعر بذلك بتول عوض التي كانت تعالج على نفقة والديها ،وما زالت الى هذا اليوم تفتقد صديقتيها: فاتن سلطان التي طالما حلمت والدتها رؤيتها بالثوب الابيض لا بالكفن ، ولانا الصباغ صاحبة رسالة الماجستير عن نبذ الإرهاب،اللتين توفيتا لحظة الانفجار وعلى مرآى من عينيها ، لتنجوا صديقتها ورفيقتها بالذكرى والألم سوسن أبو حليمة ، وصديقتهم أيضا عروس عمان “نادية العلمي” التي فقدت في ليلة العمر والديها وحماها .

كيف ل ” رولى العمرو ” أن تطوي صفحة ذكرى الأربعاء الأسود،عندما حولتها شظية استقرت في عمودها الفقري إلى انسانة مشلولة الأطراف الأربعة ؟ ولك أن تتخيل العقرب الذي حل ضيفا عليها في منزلها الجديد البعيد عن مدينتها الكرك لتكون قريبة من مكان العلاج ،لتقف عاجزة عن الحركة من أجل التخلص منه .
وهل هذا العقد من الزمان، كفيل بأن يضمد جراح أخوة الشاب صهيب خورما، الذي كان يجهز لعرسه ، واغتاله الإرهاب الجبان ، تاركا والدته تعاني حرقة الفراق الى ان توفاها الله ؟ وهل كان الوقت كاف لأن يتعود المهندس سمير فاروقة على حياته الجديدة وهو مصاب بالشلل ، الذي أجبره على ترك منزله والبحث عن منزل أرضي يتناسب مع وضعه .

الا تفتقد الطفلة “تولين “ذات الشهرين آنذاك ، والتي بلغت الآن عامها العاشر، والدتها ” بنسيانه زريقة ” التي رحلت مع والديها عن الدنيا تاركة بجانبها رضاعة الحليب ، أو أن تنادي على جدها وجدتها الذين لم تتعرف اليهما ، وهل تأقلمت مع وضعها الجديد،بعد أن أجبر والدها على الزواج من أخرى .

وما الوضع النفسي لأبناء الأخوة “المثنى والأرقم الحفناوي “،الذين تركا عائلاتهما خلفهما بلا معيل لهما سوى الله ، وعاكستهما الظروف بعد وفاة شقيقهما الثالث “أنس “بحادث سير بعد شهرين من الحادثة،ليعيشا تحت سقف واحد ويواجها مصاعب الحياة بصلابة.

ونتساءل ما حل بعائلة ” محمود العقرباوي “الذي فقد زوجته وابنته الصغيرة ، وعائلة “زهدي أبو زهية” الذي وعد أطفاله في تلك الليلة أن يعود مبكرا ليقبلهم قبل خلودهم للنوم،وغيرهم الكثيرين من أصحاب القصص المؤلمة التي تمزق القلب.

وهل ..؟ و هل ..؟ وهل ..؟ أسئلة كثيرة ما زالت تدور في أذهاننا حول أهالي الضحايا والناجين ، وحالتهم النفسية وأحوالهم التي بدلها الارهاب، إلى حياة اليمة وحزينة، تكبدوا فيها الكثير من الخسائر المادية والمعنوية، أبسطها تغريمهم لتأخرهم بالإبلاغ عن الوفاة وإصدار شهادات الوفاة ، وكذلك دفع أثمان القبور، إلى أن أعاد تحقيق صحافي أجريته سابقا اليهم حقوقهم.

صحيح أننا شعب صاحب ارادة وعزيمة قوية على مواصلة الحياة ، ليس من صفاته الحزن واليأس ،ولا ينكسر بسهولة ، إلا أننا ومن منطلق كلمة قالها مليكنا خلال حضوره لاحدى جلسات مؤتمر إتحاد وكالات الأنباء العربية الذي استضافته عمان عقب الحادثة مباشرة حيث طلب بعد اعلانه القبض على المتفجرة الفارة ” ساجدة الريشاوي “، مناشدا الإعلام أن لا يتعامل مع الناجين وأهالي الضحايا بنظام الفزعات ، وأن لا ننساهم ،لآننا شعب يتألم ويتفاعل إلا أنه ينسى بسرعة .

إلا أنه بعد الحادث الاجرامي ، وعلى مدى عقد من الزمان ساهم الإعلام والمؤسسات الرسمية والمنظمات الإجتماعية في التضييق على الأرهاب ،ونبش جراح الناجين من التفجيرات ، عبر عرض قصصهم، دون التطرق إلى أوضاعهم النفسية ومعاناتهم المستمرة ، وانصب اهتمام الحكومات على اصدار قانون منع الارهاب ،فيما خلت خططها وبرامجها من الاهتمام بالبعد النفسي للمصابين والناجين ، خاصة ما يعرف ب “ما بعد الصدمة” ، وهم في مثل هذه الظروف بأمس الحاجة الى من يقوي عزيمتهم، لاننا نستمد قوتنا وعزائمنا منهم.

على الرغم من اصرار الناجين من تفجيرات عمان على الحياة وتجاوز جراحهم ،تبقى أمالهم نسيان الحادثة وما تركته فيهم من آثار نفسية، لانهم لا يزالون يشعرون بالألم في أجسادهم وفي عيون أهاليهم ومحبيهم.

ربي احفظ هذا البلد آمنا مطمئنا ، واحمنا من التطرف والعنف ، ونجنا من الإرهاب ، وأعنا على الرعاية النفسية للناجين وأهالي شهداء الارهاب …
حتى يظلوا مصدرا لقوتنا ،علينا أن نمنحهم القوة .

Jaradat63@yahoo.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى