كُورُونَا ودِمنَة

كُورُونَا ودِمنَة

د. جودت سرسك


يروي ابنُ المقفع عن التراث الهندي قصصاً نقلها إلى العربية تحمِل الحكمةَ واللونَ السياسي والمزاج الثقافي في إطارٍ نثري قصصي روائي، يتنقل كالثعبان مابين مسار ومسارٍ، حتى أن قارئه يحتاج إلى مُكنة لغوية وذهنية ليديم تتبع القصة ومغزاها بإطارٍ استطرادي يدور ويراوح.
في قصة يرويها عن خلاف بين ملك البوم وملك الغربان وكيف تحقّق النصرُ للغربان على البومِ بفضل حكمةِ مستشاره الغرابِ الذي ضحّى بريشِه وبسفكِ بعض دمِه حتى يتظاهر بخلافِه مع حاكِمه ويتعاطفَ معه ملكُ البوم، لعب الغرابُ دورَ العميل الخفيّ فأتقن دورَه إلى أنْ وثقَ به ملكُ البوم فقرّبه منه واعتبر البومُ ذلك كسرَ عينٍ لعدوّه ملك الغراب.
استطاع الغرابُ بعد أنْ نما ريشُه وقويَ عودُه بعد الضرب المُبرحِ المصطنعِ مِن قبيلته، استطاع أن يخرج ويشي لملك الغربان بمكان اجتماع البوم في مغارة في جبل شامخ، فجمعوا الحطب والركام وأشعلوا ناراً بتدافع أجنحتهم فكان مصير البوم التي خرجت الحرقُ، والاختناق لمن بقيت في المغارة ولم تخرج.
قال ملك الغربان: لم يُهلِكْ ملكَ البوم إلا بغيُه، وضعف رأيه ورأي وزرائه. وقلما ظفر أحدٌ يبغي وقلّ من حرص على النساء فلم يُفتضحْ، وقلّ من أكثر من الطعام فلم يَسْقَم، وقلّ من ابتلي بوزراء السوء إلا وقع في المهالك.
ولمّا تعجّب الملك من الغراب وصبرِه وعدم وقوعه في الزلل أو سقَط الكلام أمام عدوّه من البوم، قال له وكيف صبرك وتحمّلك ذاك؟
لم أزل متمسكاً برأيك أيها الملك، أصحبُ القريبَ والبعيدَ بالرفق واللين والمواتاة. قال له الملك: وجدتك أيها الغراب صاحب عمل ووجدتُ غيرك من الوزراء أصحابَ أقاويل لا يُحمد عقباها.
يقول ابن المقفع على لسان البوم الذي أشار بقتل الغراب المتصنع محذراً أن تكونوا أيها البوم الذين تعاطفتم مع الغراب المنتوف الريش كالنجّار الذي كذّب بما علم وتغافل حين أخبره بعض أهله بعلاقة بين زوجته وخليل غريب فتحايل عليها وأخبرها بذهابه في عمل لبعض الأشراف مسيرة يومين، فما كان منه بعد أن ودعها إلا أن خرج من البيت ودخل من باب جاره واختبأ تحت السرير يرقب ما سمعه من أمر زوجته. وما كان منها إلا أن دعتْ خليلَها أنِ اقدمْ علينا، وبعد أن غلب زوجَها النعاسُ ونام، ظهرتْ رجلُه من تحت السرير فرأتها وطلبت من خليلها أن يسألها عن أيّهما أحبُّ لها هو أم زوجها؟ وطلبت منه أن يرفع صوته فاستجاب لها وتيقّظ زوجُها على صراخه، فراحتْ تجيب أنك تعلمُ حاجتنا معشر النساء من الرجال ولا يضيرنا حسبُه أو مالُه أيّاً كان من الرجال. أمّا الزوج فهو الأب والأخ والولد الحاني ولا شيء يعدله. فلما طلع النهار غادر الخليلُ وخرج الزوج من تحت السرير وراح يداعب شعرَها وقد تناومت ويقول لها: لولا ما عرفتُ من محبّتك لي ممّا سمعته أمس لرأيتِ مني مخصمةً شديدة لذلك الرجل.
ويقول ابنُ المقفع في قوم أصابتهم جائحةُ فأحجموا عن أمرِ الترياق فألحّت الدولة عليهم وراحتْ تتوعّدُ وتهددُ وتعاقب، حيث أشار عليهم بما فعله الغراب مع البوم من تحايل وأقرّ عيون قومه بعد سُهاد.
لقد كان فيمن كان ناسكٌ اشترى عريضاً ليقدمه قرباناً فاعترضه قوم مَكَرةٌ بالحيلة، فقال أولهم: ما هذا الكلب الذي معك؟، وقال الثاني: لا يعقل أن يكون ناسك يجرّ كلباً؟، وقال الثالث: هل تريد الصيد بهذا الكلب؟ فلما أدرك الناسك أنّ الذي معه كلبٌ، قال في نفسه لا بدّ أنّ التاجرَ سحَرني وباعني كلباً.
لله درّ ابن المقفع وكليلتِه فقد سبرتْ واقعَنا ورسمتْ البسمةَ على وجوهِنا وجعلتنا في حِلٍّ ممّا نقول، فالذي يقول غراب وأسْودٌ ثعبانُ وبومٌ وسنّور وحدأةٌ وسلحفاة وفيروس وفايزر وزينيكا وحكايا أخرى من أرض الصين وكلّنا كالنجار الذي يعلم ويتغافل.

مقالات ذات صلة
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى