قصة : شيئ يشبه الحب

[review]
شيء يشبه الحب

قصة محمود احمد الشمايلة

كنت أعلم بأنها قادمة ، لذلك حجزت مقعدا إضافيا إلى جواري بأن وضعت عليه كتابا ، ثم اختبأت وراء حسن النوايا.كانت القاعة تعج بالداخلين والخارجين حتى تشكّل الازدحام المفتعل لحظة وصولها إلى ذلك الزقاق الذي يفضي إلى قاعة صغيرة اتخذت شكل الحرف لام (L) بالانجليزية وزعت عليها مجموعة من المقاعد مختلفة الأشكال والأحجام ، بعضها اصطف بشكل عمودي باتجاه المنصة ، وبعضها الآخر جاء مواربا بزاوية قائمة باتجاه المنصة أيضا ، حيث سيلقي الشعراء قصائدهم .
عبثا حاولت الخروج من ذلك الازدحام ، اشتدت الحركة قليلا ثم لاذت بالفرار ، بعد أن حظي بعضهم بملامسة معطفها الشتوي الأسود أو لامس خصلة من شعرها أو حتى أستنشق عطرها الذي ملأ فضاءات المكان.

في تلك اللحظة كنت أتوسل للأقدار أن تدفعها إلى ذلك المقعد الذي يفترض أن يكون لها ، ولكنها اتخذت مقعدا أخر بالقرب من مجموعة من النساء في الجهة المقابلة للمنصة ، وأصبحت أنا في الجهة المواربة ، بالرغم من ذلك فقد حظيت بموقع يسمح لي باستراق النظر والغوص في عينيها.
العرف الثقافي للقاعة كان قد وزع الحضور بشكل يبدو وكأنه مخطط له مسبقا،عدد قليل من النساء في الزاوية الأمامية ورجل واحد قد حشر نفسه وجعل منها حدا فاصلا بين الرجال والنساء بحجة الاهتمام الثقافي أو ربما ليظهر نفسه أكثر اهتماما .
بدأت الأمسية الشعرية بكلمات قالها مدير الأمسية كانت تبدو جميلة ، ثم قدّم الشاعر الأول بإنجازات ثقافية لا أعرفها ،ولكني صفقت مع المصفقين .

مقالات ذات صلة

كان المكان مليء بها ، أصبحت الأشياء من حولي رخيصة ، حتى الأشخاص الذين أعرفهم فقدوا بريقهم، لم أعد اسمع شيئا سوى صمتها الهادئ ، ولا أتنفس إلا عطرها ، أسترق النظر من جديد ولكن هذه المرة بجرأة أكبر.

ملامح وجهها وتضاريس جسدها أعرفها منذ زمن الدحنون ومواسم حصاد القمح ومواعيد قطاف الزيتون ، كان معطفها الشتوي اسود اللون يلتقي من الأسفل مع حذاءها ذو الساق الطويل ، إلا أن حالة الجلوس قد أرغمت المعطف على الانسحاب؛ ليترك حدا فاصلا للدخول إلى عالمها المجهول والتي أحكمت إغلاق أزراره ليزيدها غموضا فغموض فغموض ..
في الحقيقة أعجبتني إلى حد الذهول فقد كانت جميلة جدا .
التصفيق أعادني إلى القاعة من جديد فصفقت مع المصفقين . نفضت رأسي قليلا ، تذكرت بيت شعر لأحد الشعراء حين قال :
لا تصفق فعيوني لن تراك من يداويك إذا شلت يداك
فشعرت بالسذاجة إلى حد الخيبة .
أعلن مدير الأمسية عن تقديم شاعر آخر ، فقدمه بكلمات لا تقل جمالية عن الذي سبقه فبدأ الشاعر يغرد في سماء القاعة فقال : …
رائحة العطر جعلت المكان أكثر حميمة ، وجعلته شأن نسائيا آخر ، فلم أعد أرى إلاّ هي.

أسترق النظر من جديد ، الشعر الكستنائي يتوسد كتفيها بحنو ليشكل مع القرط لوحة أخرى ، أما عيناها فتبدوان وكأن السماء اكتسبت زرقتها منهما .
الحد الفاصل جذبني إليه مرة أخرى ، ويحثني على التطاول للبحث أكثر ، فربما إسقاط ورقة على الأرض والتقاطها مرة أخرى يكشف عن مزيد من غموض المعطف،ولكن كان ذلك دون جدوى.
على الرغم من أن المعطف قد تواطأ معي قليلا إلا أنني عزمـت على اغتياله واغتيال كل من التف حوله .
كان قلبي يزداد خفقانا ، أردت أن أقول لها أحبك ،فأغمضت عينيّ وانزلقت في المقعد وتركت روحي معلقة في الحد الفاصل بين النوم واليقظة وحلقت بأحلامي .

لملمت أوراقي وأحزاني المبعثرة على طاولة خشبية لفت نفسها بجريدة اصفّر لونها بعد أن امتلأت بأكـواب الشاي وفناجين القهوة وأعقاب السجائر ، ووضعتها في خزانة ، أو صندوق ،أو ربما نعش أو شيء يشبه كل ذلك ، لا أعرف له اسما ولكنه يحتوي على كل شيء حتى كسرات خبزا قاسية وربما فئران أيضا .
استلقيت على سريري بعد أن تصالحت مــع نفسي فارتديت ملابس مرتبة وحلقت ذقني ووضعت عطرا ، ورحت أراقب ساعتي الجدارية التي كانت تتحرك بتثاقل كبير.
كان وقع أقدامها وكأنها تعزف على أوتار قلبي ،الصوت يعلو ، يعلو ويعلو معلنا لاقتراب ، حتى فتحت قلبي قبل أن أفتح لها الباب ، وأخيرا انتصبت أمامي بمعطفها الشتوي وحذائها ذو الساق الطويل ورائحة عطرها كتمثال أبي الهول بعظمته وقالت أحبك …
الكلمات ضاعت مني ، ولغتي خذلتني وأصبحت غريبة كما هي لغات العالم الأخرى.
آه. ..اه …اه

ليت الكلمات ما كانت ، وليت الأحلام ما كانت ، وليت اللغات ما كانت ….و ….و
في تلك اللحظة ، أخرجت هاتفها النقال واختارت أغنية بدأ صوتها يتعالى أظنني أعرفها ربما كانت (تايتنك) ثم خلعت معطفها وكأنها أرادت أن تخلع قلبي ، فانكشف أمامـــي نصف الغموض الذي ذهبت لاستكشافه فسرعان ما تراجعت عن فكرة اغتياله بحجة الاّستسلام .
المكان أصبح أكثر دفئا ، لغتي عادت إليّ ولكن لم أجد ما يمكن قوله فالصمت أبلغ من الكلام .
تسمرت في مكاني ورحت أدوخ في بحر الدهشة وتساءلت هل يمكن للحب أن يعرينا من معاطفنا ؟. أم أنه يخدعنا فقط ليدهشنا ويترك لنـــا أثرا مشبوها لا يمكن قبوله كدليل على أن الحب مر بنا يوما؟ ، وعنوان الخطيئة رجل تعلق بمعطف وحذاء طويل الساق فانفطر قلبه.
كنا نتراقص على أنغام صوت دافئ كان يشبهنا إلى حد التطابق .
أغمضت عينيها ، ففعلت …
قبلتني ، ففعلت
قالت أحبك ، فقلت…
التصفيق يتعاظم ، أصوات الكراسي تدق في رأسي مسمارا ، وهكذا عادت روحي ، ورحت استكشف المكان مرة أخرى ، حتى استدركت مفتعلا النهوض كما يفعل الآخرون.
القاعة قذفتنا جميعا إلى الشارع المتجه من الغرب إلى الشرق اتجاها إجباريا ، هي التزمت بالقواعد وسارت إلى الشرق ، وانا اتخذت الغرب وأنا أحمل جسدي المنهك مــــن الأحلام وأسير عبر الأرصفة الكسلى وأبحث في الوجوه المتعبة والتي بدت وكأنها تحسدني على حلم صنعته بنفسي .
ساعات مضت حتى قابلني صديقي الذي لم يستطع حضور الأمسية بحجة انشغاله بأعمــال أكثر أهمية فسألني كيف كانت الأمسية ؟
تفحصت ملامح وجهه وعينيه ، بدا وكأنني لا أعرفه فظهر وجهها دفعة واحدة في وجه،فاستدركت قائلا لقد كانت رائعة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى