شخصية الدولة أم دولة الشخصية؟ / شبلي العجارمة

شخصية الدولة أم دولة الشخصية؟

” يرحمك الله يا أبا عبيدة، تترکني أصلي في الجند والسلطان سلطانك ،ما أنا إلا جنديُُ من جنود الله ما قاتلت من أجل عمر بل من أجل رب عمر “ ،بهذه العبارة البسيطة کان التصريح العفوي والتعليق الصحفي السياسيّ الذي قابل قاٸد أجناد الشام خالد بن الوليد رضي الله عنه نبأ کتاب عزله عن إمرة القيادة لجيوش الشام، سيف الله المسلول، أبو سليمان ،أسطورة البطولة في مٶتة، قاٸد فتوح الفرس ورٸيس هيٸة أرکان جيوش الشام في اليرموك، لم يستنصر في بني مخزوم ،ولم يخرج جماهيره لتغلق الطريق ما بين الحجاز واليرموك ،لم يخرج علی هيٸات الإعلام والسوشال ميديا مصرحاً ومتوعداً وغاضباً ومخوناً للشعب والجند والدولة،ولم يقسم الشعب إلی فٸتين ;فٸةُُ تحمل أجندات عمرية عامة وفٸةُُ تحمل أجندات عن الخالدية المخزومية الخاصة،ولم يبرح أرض المعرکة في اليرموك ،ولم يلتزم بيته لأن الصفة الشخصية واللقب الذاتي انقلبن رأساً علی عقب بين عشيةٍ وضحاها بل ما بين طرفة عينٍ وإطراقة سمع،من قاٸد عامٍ للجند إلی جنديٍّ عادي رتبته السيف وأوسمته خريطة الجراح الکثيفة في الجسد،کان أمرُ التسليم جرةُ قلمٍ علی رقاع جلد بسيط،وکانت مراسم الاستلام والتسليم أقل من عاديه فقط إمامة الجند في الصلاة بأرض الموت والأشلاء والقدر ،مرت کالريح الخفيفة لم يشعر بها حتّى بقية الجند، کانت عهدة الجنرال خالد المخزومي من الدولة التي نذر نفسه لها ولدينها ولشعبها صفر ،بل کان له مٸة فرسٍ ومٸة خوذة أطلقها في سبيل الله ﷻ علی حسابه الخاص وذراعين أعتدّهما في سبيل الله أيضاً،لکنه کان يحمل في خوذته أقدس عهدةٍ وأغلی أمانة ،کانت خصلة من شعر النبي ﷺ أيقونة تفاٸلٍ وبرکة استجلاب النصر لله لا لخالد.
رحل سيف الله المسلول وکان موکب الرحيل مبکياً ومستعصراً للدموع ومدمياً للقلوب،حجرةُُ وحيدة في حمص أثاثها بردةُُ وحصير من جرير النخل وخوذة وسيف ونسخة قرآنٍ غلافه من جلد الجمل،وأوسمته تزدحم علی خريطة جسده ما بين جرحٍ دامٍ وطعنةٍ برمح أو رميةٍ بسهم ،حتی بکته البواکي علی امتداد رقعة الدولة لأنه لا بواکي لأبي سليمان علی حد تصريح الفاروق رضي الله عنه وولي أمره وأمير الدولة حين صعقه خبر وفاة خالد بن الوليد.
أمانة المنصب هي أشبه بکرسي للحلاقة،أو هي عبارة عن ورقتين مروستين بشعار الدولة ،ونص کتابي واحد تختلف فيه الکلمة الأولی فقط،ففي الأولی عيناك وفي الثانية أقلناك وما تبقی حشوُُ للمجاملة ورفعُُ للروح المعنوية لا أکثر،وما بين الکلمتين والورقتين تدور رحی السيرة التي تأتمر بأمر السريرة والمنهج، فالأيام دول کما وصفها اللهﷻ،والأعوام خشبات ساقية ،ومثلما أتی بك الدهر يوماًً سيأتي عليك بيومٍ آخر بين فکي شروق الشمس وبين زوالها .
نحن ندرك حجم الفراغ الذي تترکه هالة المنصب وعجرفة بروتوکول الشخصية الأولی ،وندرك أيضاً معنی تبخر الجموع والحشود بين عشيةٍ وضحاها من أجندات هالة المنصب وتضخم الذات ،کما ندرك أيضاً إنحسار بحار اليوم عن شواطیء البارحة، کما ندرك صعقة الارتطام عند الهبوط من أبراج العاج إلی سعير الإسفلت الذي لا يفرق أمس الحراث عن يوم الإقطاعي .
الوطن والدولة والشعب هي کفُ النعمة التي کنت تبطش بها عن بسطة من نفوذك ،وترحم من خلالها عن تفضلٍ من منصبك،وتعز بسلطتها من شٸت وتذل بها من شٸت ،هم الصولجان الذي منحته لك تراتيب الأيام أو صُدف القدر ،هم مصباح علي بابا الذي حققت به کل أمانيك،کما جاءتك بلطف أعدها بلطف،قبلها وتواضع بالثناء له وعليها ،ولا ترتدي عباء الغرور إن کنت قد أصبت واعتذر إن کنت قد أخطأت أو عکيت .
کلنا قادة وإنّ ترجلنا عن صهوة الميادين أو نزلنا عن صهوات جياد السلطة ، مثلما فعلت أنا حين تقاعدت ،رتبت أشجار حديقتي کالجند ألقي عليها تحية الصباح کل يوم وأنا أحتسي قهوتي،ترافقني زوجتي وطفلي الصغير عوضاً عن هالة البروتوکول وضجيج الحرس والسکرتاريا ،وأتفقد خطوط إنتاج البيض في خم الدجاج ،وأصعد إلی السطح بجولةٍ تفقدية لأسراب الحمام الزاجل وإلقاء نظرةٍ علی عاٸلات التفريخ هناك،ومن سمو السطح أيضاً ألقي التحية علی الجيران وألوح لهم بيدي اليمنی استشعاراً بالعلو والأنفة،أهبط إلی البيت لأوزع الهبات والأعطيات بالبريزة والشلن والربع دينار حسب العمر وحسب الصف وحسب المهمة المنجزة ولا أفرق بين ليث الأسمر أو محمد الأشقر ، أصدر حزمة الأوامر بمستجدات الأمور وأضع حلولاً منطقية ومحتملة للمشکلات وأمارس الديموقراطية بسکر خفيف وأطبق دکتاوريتي بما تبقی من السکر وبإسرافٍ منقطع النظير .
کل تلك الهالة تتهشم وکل ذلك البروتوکول يتلاشی بمجرد أنّ أتناول محفظتي ومفتاح سيارتي وهاتفي حين تقف انکشارية بنتي روعة الصغيرة وهي تحمل قاٸمة البطاطا والخبز والشيبس وتختمها بعبارة ”هاك جيب معك هظول شاطر بس تخلف وتهاوش !“.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى