حكمة حلبية رائدة / يوسف غيشان

حكمة حلبية رائدة
يوسف غيشان
في بداية مشوارة الفني تعاقد عبدالوهاب مع متعهد محلي من مدينة حلب السورية، لإحياء عدة حفلات غنائية في المدينة ،وكان عبدالوهاب ينتظر فتح الستارة على أحر من الشطّة والجمر معا.
فتحت الستارة ، واذا بالقاعة الكبيرة فارغة، الا من عشرة اشخاص ينتظرون المطرب بتجهم وانتباه. فوجئ الفنان بهذا الجمهور الفقير ، وحاول الإنسحاب من الحفل، الا ان المتعهد قال له بأنه ملتزم -حسب العقد- ليغني ، وليس له الحق في الإعتراض على عدد الجمهور ، ثم ابتسم المتعهد وطمأنه قائلا بأن هذا هو الوضع الطبيعي في الحفلة الأولى ، وفي مدينة حلب تحديدا.
لم يرض ولم يفهم عبدالوهاب الموضوع ، وغنى كامل فقرات الحفل لعشرة اشخاص فقط. بعد انتهاء الحفل ، دخل الفنان على المتعهد فوجده فرحا وسعيدا ومتفائلا، رغم أن الحفل يعتبر خاسرا بجدارة من الناحية الماليه. قال المتعهد لعبدالوهاب:
– انتظر الى الغد ..وسوف ترى!!
في اليوم التالي ، عندما فتحت الستارة كانت القاعة ممتلئة تماما، فغنى عبدالوهاب كما لم يغني من قبل ، واستمر النجاج يوميا فيوما حتى انتهاء برنامج الحفلات . لكن (نكسة ) الحفلة الأولى كانت لا تزال عالقة في ذهن الفنان ، ولما سأل واستفسر ، عرف الموضوع.
والموضوع يا سادة، هو أن هؤلاء العشرة الأوائل ، يسمونهم ب(أذان حلب) وهم لا يسمحون لأي حلبي بحضور حفل غنائي ، الا اذا كان المطرف مستوفيا الشروط الفنية ، وذلك خوفا على الأذن الحلبية من سماع النشاز. وهكذا يحضر هؤلاء الحفل الأول ، ثم يقررون اذا ما كان المطرب يستحق السماع أم لا ، وبعدها يسمحون او لا يسمحون لأهالي المدينه بسماعه. وقد نجح الأطرش في الأمتحان.
واختفى عبدالوهاب واختفى المتعهد واختفت المدينة ، وظهر مكانها شعب عربي كبير من المحيط الى الخليج ينتظر رأي العشرة الأوائل الذين لم يجدهم بعد، لعلهم يدلونه على الطريق الصحيح.
ففي خضم الهجوم الإعلامي الكبير على الدماغ العربي ، هذا الهجوم الكاسح الذي حول الإنسان العربي الى مجرد متفرج على شاشة فضية .
خبراء استراتيجيون ومحللون سياسيون واجتماعيون سياسيون وباعة يانصيب ليس خيريا … الجميع يفتي ويعلق على احداث ، عرفها عن طريق التلفزيون ….. جميعنا بلا مرجعيات، سوى الشاشة الفضية وبعض الصحف والمواقع الأليكترونية والأذاعات..وجميعها تحصل على معلوماتها من الفضائيات.
لا احد يعرف ماذا يحصل في الدولة الشقيقة ، والمدينة الشقيقة والحارة اللصيقة والعمارة المجاورة والشقة الشقيقة، وفي بيته ايضا ..لا احد يعلم ما يجري الا اذا قالوا له انه جرى ….. لا احد يعلم الحقيقة.انها مجرد حقيقة افتراضية ..نتعاطاها لكأنها الحقيقة المطلقة.
ما احوجنا الى عشرة الى خمسة الى واحد …. الى أذن حقيقية مصغية تماما وتدرك الحقيقة تماما ، وتخبرنا اياها كما هي بالضبط وليس كما يريدون أن نعرفها.
ما احوجنا الى العشرة
في السياسة والإقتصاد والعلم والدين والدنيا !!
ghishan@gmail.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. تحليلك لما يحدث في العالم العربي والاسلامي ممتاز كما الدؤلي وضح الحركات على الحروف لمعرفة غاية الكاتب والله يا استاذ غيشسان انت مبدع وفنان وشكرا

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى