تحت الضوء

تحت الضوء
د. هاشم غرايبه

التذوق الفني هو إحدى النعم العديدة التي خص الله بها الإنسان، والفن بكل أنواعه أوجده الله لنفع البشر، وهي جميعا يمكن توظيفها للمتعة والترويح عن النفس، لكن ضمن رسالة هادفة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالصوت الجميل يمكن أن يحبب الناس في سماع القرآن والأذان، ويمكن بغناء رقيع أن يحبب الفجور والفسوق، كما أن الرسم يظهر بدائع صنع الله وجمال الطبيعة، كما يمكنه إظهار ما وجب إخفاؤه من جسد المرأة، مما يتنافى مع الحشمة ويدفع الى الفحش.
هنالك مدرستان تحكمان كل الفنون البصرية والسمعية، الأولى تقول إن الفن يجب أن يوظف لخدمة المجتمع، فيطرح القضايا التوعوية والتثقيفية النافعة، والأخرى تقول إنه للمتعة والتسلية لذا فهو سلعة تجارية تخدم مصلحة الممول.
بلا شك فالمدرسة الأولى تتوافق مع الدين، والثانية تتوافق مع المذهب الرأسمالي، الذي لا يسعى لغير جني الأرباح وتعظيم المردود المادي، ولا يهتم بالمجتمع إلا بقدر ما يحقق له ذلك التسويق والإستهلاك.
لعل الأعمال الدرامية (التمثيل)، هي الأهم والأخطر من بين كل الفنون، فهي أبلغ الوسائل تأثيرا في المجتمع، ويمكن توظيفها إيجابيا أو سلبيا.
الغرب بعد أن احتكر القوة وسيطر على العالم، فرض على الدول الضعيفة حكاما فاسدين لإدامة التبعية له، وحقق مراد شعوبه في الوصول الى الحكم الرشيد، فحكامهم تحت الرقابة، فلا يسمح بالفساد، وغير منزهين عن المساءلة، فلا يجرؤون على نهب ثروات الوطن، وهكذا فلم يعد للشعوب الأوروبية قضايا تهددها وجوديا، فليس هنالك من لديه أراض محتلة ولا من مستعمر يتسلط على مقدراته، ، كما أن الحرية والعدالة مكفولة لشعوبهم، ولما أن حققت الإمبريالية الرخاء لشعوبهم بنهب خيرات الشعوب الأضعف، فلم يعد لهم من طموحات أكثر ولا قضايا يناضلون من أجلها، فلا يحتاجون لتوظيف الفنون في نضالات لتحصيل مكتسبات أو استعادة حقوق.
إن اتّباع أنظمتنا الحاكمة منهج الغرب الرأسمالي هو عن تبعية والتحاق، فرضت عليها، وليس عن قناعة ورغبة في التطبيق، لذلك فليس متوقعا تحقيق ما حققه الغرب، بل هو عكس ذلك تماما.
ومن جملة المفروضات، اتباع مذهبه في توظيف الفن تجاريا، حتى لا يستثمر لصالح التوعية وتحقيق النهضة.
سأطرح تاليا مثالاً واقعيا، يبين كيف يمكن للتوظيف الإيجابي المساهمة في تقدم ورفعة الأمة، إن كان القرار السياسي يريد ذلك فعلا.
عندما تسلم حزب إسلامي الحكم في تركيا، وجد إرثا ثقيلا من التوجيه الثقافي بعكس عقيدة الأمة، تحت مسمى العلمانية، وكان في حقيقته إفسادا ونشرا للإنحلال وترك القيم الإسلامية الأخلاقية، وقد أثر هذا الإفساد على ثلاثة أجيال على الأقل، مما جعل مهمة الإصلاح صعبة.
لذلك جرى العمل بهمة على كل الأصعدة وبالأخص تربية الأجيال الجديدة، فمن تربى على قيم فاسدة لسبعين عاما من الصعب تقويمه، لذلك كان الإهتمام بإرساء القيم القويمة في نفوس الناشئة من جديد، ومن أهم الأدوات الفنون الدرامية.
لقد عرفنا أن الفنانين والمفكرين الأتراك متقدمون، ولكن لسيطرة العلمانية من جهة ولقصور الإسلاميين من جهة أخرى عن استيعاب الفنون والإنخراط فيها بسبب سيطرة المتشددين تاريخيا على الفقه، والذين حرموا كل الفنون وجعلوها فسوقا، مما ترك الميدان فسيحا لمعادي الدين للسيطرة الكاملة.
لذلك كانت كل الأعمال االفنية الدرامية من مسلسلات وأفلام تكرس القيم المفسدة والمعاكسة للعقيدة والإعتزاز بالتاريخ المجيد، والأتراك مثل العرب، ليس لديهم ما يعتزون به إلا تاريخهم الإسلامي.
لذلك نشط المثقفون الملتزمون ببرنامج التمسك بالعقيدة، فقدموا بضعة أعمال فنية، راقية المستوى، تهدف الى إعادة الربط بثنائية التاريخ – العقيدة الإسلامية، فانتج مسلسلان في سلسلة المسلسلات التاريخية الهادفة هما: المؤسس أرطغرل، والمؤسس عثمان، ناطقان بالتركية، لكنهما مترجمان الى العربية، للمساهمة في نهضة الأمة كلها، كون الأمة لن تنهض من جديد بغير العرب.
لقد تابعت تسجيلا للمسلسل الثاني (27 حلقة)، ولا يمكنني إخفاء إعجابي البالغ بهذا العمل في كل عناصره البنائية: القصة والسيناريو، فقد تجلت عبقرية الكاتب “محمد بوزداغ” في إدخال الحبكة الدرامية الفنية في التفاصيل التاريخية التي تبين أن نهوض الأمة التركية وتخلصها من استعماري المغول والبيزنطيين كان بفضل التمسك بالعقيدة، وأما العناصر الفنية فكانت لا تقل عن أرقى الأعمال العالمية تمثيلا وتصويرا ومؤثرات وموسيقى وإخراجاً.
عندما تقارن ذلك مع الأعمال العربية الهابطة التي ترصد لها الميزانيات الضخمة، لكن لكون المضمون فارغا أو معاكسا لمشاعر الأمة، فهي لا تجد مشاهدين وتسقط.
الفن والأدب من أهم أدوات النهضة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى