اليوم الأول في العام الدراسي / د. قــدر الدغمــي

اليوم الأول في العام الدراسي

أجزم بأنه لم يعد في أيامنا هذه طعم أو لون أو رائحة أو حتى روح للذهاب للمدرسة، واستقبال العام الدراسي الجديد، سقى الله أيامنا الخالدات أيام زمان، كانت ليلة عودتنا إلى الدراسة ليلة مناسبة جميلة تشبه ليلة العيد، فرح ولحظات “سرقناها من أعمارنا” ليلة الذهاب في اليوم الأول من العام الدراسي الجديد للمدرسة، ليلة لا نوم فيها ولا هدوء، تتجافى جنوبنا عن المضاجع في انتظار صباح الغد تجلدنا الساعات الموصلة إليه لهيب شوق للزملاء والمعلمين وحنين للأحبة والأصدقاء، كنا مسكونين بحب بريء عذري عفوي غامض لكل شيء في مدرستنا، تسكننا الحجرات ويتقمصنا الجرس، والطابور الصباحي وصوت المدرس المناوب وعصبية المدير المحببة.
بنا اندفاع لا نظير له لغرفة الصف وللمقاعد والمعلمين وحقيبة الكتب والدفاتر الجديدة وعلبة “الهندسة” و”الأطلس” وأقلام الرصاص، والأحضان الدافئة في أول اللقاء، حتى “عصي” المعلمين والطباشير والسبورة نشتاق إليها، نتآلف معها ونتمنى رؤيتها، كل شيء كان رائعا وجميلا وله رونق، للفرصة وسندويشة الفلافل والمرتديلا واللبنة، وزجاجات الببسي والميرندا وحبات المعمول، وللفرصة وكراتين التغذية، وعامل النظافة والحارس والساحة والجدران وخزان مياه الشرب وشجيرات المدرسة اليانعة.
كانت ليلة الذهاب للمدرسة في العام الدراسي الجديد ليلة طويلة جدا، تتهادى دقائقها كالقطار الذي يسير على الحطب، وتتعثر ثوانيها كسلحفاة عمياء كسيحة، فجرها لا يأتي أبدا، ونحن نتقلب على جمر الشوق والانتظار نكاد نقفز نطير نذوب كنسمة هواء أو قطرة ماء أو خيط دخان عابر لنتبادل في ظلال الجدران أطيافا لذكريات تلك الأيام الجميلة.
اليوم الأول في العام الدراسي، يوم له ما بعده لدرجة أننا نصل إلى المدرسة أحيانا مع طلوع الشمس مباشرة، ليفتح الزمن الجميل عينيه علينا، ونحن نحترق شوقا وأملا في لقاء يجمعنا بالأحبة والأصدقاء و”الشلة”، تلك أيام لا تنسى، نتراكض من حضن إلى حضن ومن ركن إلى ركن ومن ناصية لأخرى، نطير كفراشات حالمة ترشرش فرحا وعطرا حيث طارت، وضوضاء محببة وضجيج أليف دافئ، يحلق بنا في سماوات أخرى طالما حلمنا بها.
حكاياتنا لا تنتهى عن العطلة، وعن المشاهدات والمغامرات، وعن كل صغيرة وكبيرة، سقى الله ذلك الزمن الجميل، فكله طهر ونقاء وألفة وحميمية، اليوم لا نملك إلا دمعة تذكار حارة لذلك الزمن الجميل طعما وشكلا وروحا وحبا، لا اتذكر أننا كرهنا المدرسة يوما ما، دائما نحبها ونشتاق إليها، مهما كانت نتائجنا الدراسية وتحصيلنا من الدرجات، في ذاك الزمن لم يكن التسامح الزائد في البيت كأيامنا هذه، ولم تكن لدينا وسائل الترفيه والتسلية واللهو وإضاعة الوقت، بينما ترتبط المدرسة في أذهاننا بالجدية والرصانة والقسوة احيانا، ورهاب الامتحانات وصعوبة “أداء الواجبات الدراسية المنزلية”، وتقريع الوالدين المستمر بالوعيد تارة والتشجيع والتحفيز تارة أخرى للتميز، هذا مع شح الامكانيات المادية.
يا لها من أيام مشهودة وغير عادية، مع كل هذا كان يسكننا الخوف والرهبة من اساتذتنا الكرام احتراما وتقديرا، وكنا نعطيهم حقهم ونقدرهم وننزلهم منازلهم التي يستحقونها، ونرفع رؤوسنا وهاماتنا بهم في سماء الدنيا اخلاصا وإبداعا وشموخا وتألقا، كنا نرى فيهم القدوة الحسنة والمثل الأعلى وما زلنا، حتى وأن ضقنا ذرعا بأحد أساتذتنا لصعوبة مادته وكثرة تمارينه وواجباته المنزلية، ومارس علينا شيئا من القسوة كنا سعداء ونفرح ولا تجتاحنا الضغينة ولا ينتابنا الحقد عليه.
ما جرى ويجري على الساحة الوطنية والمدرسة اليوم محزن جداً، لقد أُفسدتم فرحة اليوم الأول من العام الدراسي الجديد لطلاب مدارسنا، وفقد طلابنا نشوة تلك الفرحة بما تحفل به من معاني لهم، فإذا كان الهم عند أهل الطلاب في تعويض الدروس المدرسية التي فاتتهم، فمن يا ترى يعوضهم عن فرحتهم لذلك اليوم ..؟
فتحية تقدير واكبار واعتزاز بمعلمينا واساتذتنا الأجلاء واجابا وعرفانا، وتحية معطرة لزملائنا الكرام في يوم العودة للمدرسة ممن جمعتنا بهم أيام الدراسة بمراحلها، من ضباط في الجيش والأمن وأطباء ومهندسين وموظفين وأساتذة ومصرفيين وإعلاميين ورجال أعمال ودعاة ومشايخ، هذه ذكرياتنا ببراءة وليتها تعود، ونعود لليوم الأول في المدرسة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى