المراجعة والتراجع والرجوع في الحب

المراجعة والتراجع والرجوع في الحب
الدكتور سمير محمد ايوب
عشوائيات في الحب – العشوائية 30

في السنة الخامسة من زواجنا ، رزقنا بأول اطفالنا الخمس . مع القادم الاول ، تناسلت ظروفٌ داخليّة بيني وزوجتي . بين التلاقي والتباعد تآكل الكثير من الوئام . وانتزع الخصام مكانا له بيننا . رغم العديد من الاجراس ، احتفر دهاليزه وامتدّ عقوقه ، إلى نّواح متشعبة في حياتنا .
بتنا مع كل مولود جديد ، في ظروف تبتكر اشياء متعددة . ابعادها تثير تأويلات مكتنزة بالإيذاء دون أن تقوُلُ شيئا . إيذاء أعاد تشكيل ملامح علاقاتنا الحسية والعاطفية والنّفْسيّة والذهنيّة . حتى غدا السلام الايجابي بيننا ، لَحظاتا مارقة متباعدة ، جف وجدانها وقلت حيلها .
لم تَعُدْ المكونات المجهرية للعاصفة ، لَيَنةَ الأظافر ولا حتى ناعمة . اشْتَدَّ عودها وبانت ملامحُها. اتخذت زوجتي من التلهي بالاولاد ، متكأ لاهمالها بنفسها وبي وبعلاقاتنا . مع كل وليد ، باتت لُغة اهمالها شّديدة التحديد ، دلالات رُموزِها مثقلة بوجع متوهج وكثيف . تجامَحَت خُطى زوجتي فيما أسمته واجبات الأمومة . أثْخَنت في ايذاء ذاتها بالاهمال العفوي والمتعمد . رجمت علاقاتنا الزوجية والعاطفية بِوابِل عدم الاهتمام . وشكّكت حتى بجدوى الاهتمامات المتوازية .
لم يعد بمقدوري ان اصعر قلبي عما أتذوق من مرارات . فلاح في خاطري الاحتياج للتبرأ والخلاص منها . لم تعد مَعْصيةِ التجاهل الصمت هي الحل الامثل . فإمّا البقاء خارجَ زّمن الاهتمام ، أو الارتقاء لِمواجهتِه . قلَّبْتُ وجهيَ في كلِّ اتجاه . ملتمسا ما يُسْعِفُني مِنْ وسائل التّخَطّي . بِصبرٍ جميلٍ بحثتُ عن زمنٍ مَفْقودٍ ، سَليلاً للفائتِ أو مُراوغا له . ونبَّشتُ عن زمنٍ آخر ، مُبْتَكَرا مُنقطعاً عمّا أعيش .
هاجَت مواجِعي وماجَت . وتعالَت أصواتُها بصريح القول ، تُؤكدُ أنّ الترميم لن يعيد ما سَبَق ، وتنكِر سُلْطةَ الواقع وعصمتَه ، بعد ان حَطِّمَ القديمَ تَعمُّداً وعن جهل . وانصرف من الشّبيه إلى المُخْتلِف . وخَلَصْت إلى أنّ الاهتمام الزائد الخاطئ بالاولاد ، هو آفةُ الخلل .
لم تكن زوجتي لقيطة في حياتي ، فهي ام اولادي ورفيقتي لثلاثين عاما . فقررت الإيلاف بينها وبيني . بانفصال منصف لا ينكرها ، ولا يطلق النارعليها ، ولا يسلقها بألسنةٍ حداد . للعلم يا شيخنا ، لم أكن حين قررت ، قد نجحت في استنبات علاقة بديلة ، مع العلم أيضا ، أنني ممن يؤمنون ان هكذا استنبات ، هو من مقتضيات المشهد الجديد ، التي قد تسهم في تعزيزه .
كبر الاولاد ، وبات اصغرهم على وشك التخرج من جامعته . حين مللت اللامبالاة . قبل أكثر من شهر ، بعد العشاء ، آوى الاولاد كلٌّ إلى سريره . وهي تجلس قبالتي في صالة المعيشة ، حسمت امري ، وقلت لها : أعتذر عما سأقول مضطرا ، قررت ان لا نكمل المشوار معا . لا تقلقي من النواحي المادية . ساترك لكم جل ما أملك . لتعيشوا ببحبوحة كما انتم .
بدت متماسكة كعادتها . ودون أن تدافع عن نفسها قالت : وفي البال حكاية تشبه حكايتنا ، سأفعل مثل ما فعلت ، واطلب منك شهرا إضافيا واحدا ، نعيشه كأسرة .
سألتها متعجبا عما يمكن ان يحدثه هذا الشهر من تغيير في النتيجة . قالت بوجع بّيّنٍ : إعتبره مكافاة نهاية الخدمة . بعد تفكير سريع ، وافقت .
بشيءٍ من الانكسار، وضبابُ دمعٍ يلوح في عينيها ، قالت بصوت متهدج : وأنا أشكرك ، أتمنى عليك أن تحرص على الغداء معنا كلَّ يوم . وأن تحملني من بعده إلى غرفتنا .
أبديتُ استغرابي بحيدة من طلبها . فقالت هذه أول مرة وآخر مرة ، أطلب منك شيئا خاصا . أرجوك أن تقبل . وافقت على مضضٍ ونفاذ صبر ، عاقدا العزم على تمضية هذا الشهر كيفما كان ، كعتبة لا بد منها للتحرر .
مع موعد الغداء في اليوم التالي عدت . واتخذت موقعي على راس المائدة . أتابع أولادي وهم يساعدون أمَّهُم في ترتيب المائدة وتجهيزها بأناقة . إختلست النظر بشكل متواصل لهم . فمنذ أكثر من شهر لم تجمعنا مائدة مشتركة . كنت أُنْصِتُ بإعجاب لحوارهم مع والدتهم . بعد انتهاء الغداء إستأذنوا . بقيت منتظرا زوجتي لأحملها وفق الاتفاق إلى غرفتنا . ما أن اطلت عائدة من المطبخ ، حملتها بين ذراعي وانا احس بالضيق . أوصلتها إلى الغرفة ، وخرجت مسرعا إلى المقهى .
وتكررت في اليوم التالي ، نفس الوقائع تقريبا . كنت أظن أنني سأتعب من حمل زوجتي إلى غرفة النوم . ولكني انتبهت لأول مرة الى هزالها وخفة وزنها وجمالها الهادئ ، رغم تجاوزها الخمسين من عمرها .
و في اليوم التالي ، تأملت وأنا أحملها ، شعرها ، واكتشفت كما كثيرا من الفضة يغزوه . كنت في الاسبوع الاول ، أرجع إلى البيت متضايقا . ولكني صرت بعد ذلك ، أنتظر موعد الرجوع .
وبعد اسبوعين من سريان الاتفاق ، وجدت نفسي غير راغب في الخروج من البيت . صرت بعد أن اوصلها الى غرفتها ، أتناول كتابا وأجلس بجانبها أقرأ فيه . إنتبهت بعد دقائق من جلوسي ، أنها تتناول بعض الأدوية من جوارها . سألتها عنها فأجابت : إنه مسكن للصداع . فتابعت القراءة .
في اليوم العشرين ، وأنا أحملها كالعادة ، طوَّقَت عنقيَ بذراعيها مبتسمة . لم تضايقني هذه الحركة ، ولم أستعجل مُضيَّ الوقت . وجدتُ نفسي بعد أيام أُخَرٍ ، أعتذر من شلة الأصحاب عن الخروج . معللا ذلك بضرورة البقاء في البيت كلَّ يوم .
وكانت المفاجأة قبل ثلاث ايام من انتهاء مهلة الشهر . كان رنين الهاتف ملحا في الصباح . تناولت سماعته لأجيب ، فقد كانت زوجتي في الحديقة الخلفية لدارتنا . سمعت على الطرف الاخر صوتا نسائيا ، يقول بعد التعارف: يا سيدي لِمَ تُماطلُ زوجتُك في الحضور إلى المشفى لاتمام عمليتها . أنا طبيبتها المعالجة ، مضطرة للسفر بعد أربع ايام . ولا بد أن استأصل لها الورم الخبيث من معدتها . إنَّ وضعها بالغ الخطورة يا سيدي ، والعملية بالغة التعقيد ، وعليها الامتثال لحقائق الطب .
كنت مذهولا أنصت . وشريط الاتفاق يمضي مسرعا امام بصيرتي . فالايام المتبقية على سفر طبيبتها ، هي الأيام المتبقية من اتفاقنا . والدواء الذي تتناوله لم يكن مسكنا لصداع كما قالت ، بل مخدرا لوجع تتعايش معه .
طلبت من الطبيبة الجراحة تأكيد الحجز . واعدا احضارها اليوم الى المشفى . ما أن اقفلت الهاتف ، ركضت اليها في الحديقة ودموعي تسبقني . احتضنت رأسها . إنحنيت على جبينها وقبَّلْتُه . أفاقت مرتبكه من ذهولها ،لا تدري بما جرى وما يجري . أمْسكتُ بكلتي يديها وقبلتهما . فسألتني مستغربة ما بك ؟
قلت عاتبا ودموعي تتسلل بسخاء : لِمَ أخفيت مرضَكِ عنّي ؟ لِمَ اخترت أن نعيش مهلة الشهر معا بهذه الطريقة ، بدل أن تسارعي إلى العلاج ؟
إحتضنتي وقالت وهي تشهق : ما الفائدة من الشفاء ، ومواصلة العيش لوحدي من بعدِك ؟ إتفقت والأولاد على أننا بشوقٍ لنعيش معك ولو لشهر . وبالفعل كان هذا الشهر ، أحسن مكافأة نهاية خدمة لنا .
قلت : أسأل رب الفضة في رأسك ، وأسأل رب تعبك بتربية أولادنا لوحدك ، ورب كل حبة مُسكن أخذتيها بصمت دون أن أحس بك ، أن يمُدَّ في عمرك ، علنا معا نعوض شيئا مما فاتنا .
خرجنا نسابق الريح إلى المشفى . أتممنا إجراءات الدخول . وعند ظهر اليوم التالي ، سارعت الطبيبة وهي تبتسم ابتسامة الواثق من الفرح ، إلى بشارتنا بنجاح العملية . إختلطت دموع حمد الله بدموع شكر الطبيبة .
ولكن النجاح الاكبر ، كان يا شيخنا في حياتنا التي ابتدأت حينها .
كنت صامتا ، ورفيقي لعشرات السنين ، في مقارعة العدو الصهيوامريكي ، يروي لي عبر الهاتف من غزة العزة حكايته قائلا : قرأت عشوائيتك رقم 29 ، عن الخذلان الذي لا يصدأ ، أوجعتني كثيرا . فقررت أنا وزوجتي واولادنا ، أن اروي لك حكايتنا . فما رأيك يا شيخنا بما سمعت ؟!
قلت والكثير من الدموع يشارك شفتيَّ : يابخت من لا زال لديه فرصة للمراجعة والتراجع .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى