السيرة الذاتية.. حضور موارب في الثقافة العربية

يرى مثقفون أردنيون أن المدونة الثقافية العربية اشتملت على نماذج باهرة في السيرة الذاتية، مؤكدين أن كتابة السيرة في الثقافة الغربية كتابة وقائع وخبرات حياة من دون حذف أو تزويق، لافتين النظر إلى أن الثقافية العربية لا تحفل كثيراً بالسيرة الذاتية، علما بأن السيرة الذاتية للمبدع تعتبر أحد مفاتيح صور الحياة للإنسان، تقرأ التفاصيل الحياتية من زوايا الذات راصدة المنابع الأولى للمبدع سردا روائيا وقصصيا وشعريا. «الدستور»، تساءلت مع بعض النقاد والأدباء عن غياب السيرة الذاتية عن المشهد الثقافي العربي، باستثناء حالات نادرة وقليلة، فكانت هذه الرؤى:  د. غسان عبد الخالق: السيرة الذاتية حديث ذو شجون في الثقافة العربية؛ فهي الأكثر تواجدا على نحو موارب، وأعني بذلك أنها تساق بصور مختلفة في تضاعيف غيرها من ضروب الكتابة، لكنها تتوارى حتى تكاد تختفي كلما تعلق الأمر بضرورة التوجه بها مباشرة للقارىء/المتلقي! وفي حدود هذه العجالة يمكنني أن ألخص الأسباب على النحو التالي: اتجاه الثقافة العربية للاحتفاء بالضمير الجمعي على حساب الضمير الأنوي بدعوى تقديم هموم الجماعة على هموم الفرد . وضيق الهامش الذي يمكن لكاتب السيرة أن يتحرك فيه جرّاء الخطوط الحمراء التي تقف له بالمرصاد ما يدفع به لتذويب سيرته الذاتية عبر الرواية بوجه خاص لأنها توفر له فرصة الاختباء خلف شخوصه كما تمنحة حرية المناورة بخصوص ما يمكن أن يبوح به من اعترافات شخصية جامحة. وثمة أيضا غرام عربي معهود بالاقتصار على سرد البطولات فقط وعدم امتلاك الجرأة الكافية للاعتراف بالاخطاء والاخفاقات..الخ ما جعل  كثيرا من السير الذاتية المعاصرة ضربا من التقارير الشخصية المملة المكرورة التي تخلو من الإثارة والامتاع والتشويق.   هذا على الرغم من أن المدونة العربية القديمة قد اشتملت على نماذج باهرة في السيرة الذاتية مثل: «طوق الحمامة»، لابن حزم، والذي ضم عددا وافرا من الاعترافات الشخصية الحميمة، و»المنقذ من الضلال»، للغزالي، والذي مثل سيرة ذاتية فكرية جريئة، و»التعريف بابن خلدون»، الذي ألقى الضوء على المشهد الثقافي في أقطار المغرب العربي فضلا عن مصر وأسهب في تصوير مشهد استيلاء المغول على دمشق وكيفية قيام ابن خلدون بتخليص نفسه على نحو براغماتي! كما أن المدونة العربية الحديثة لم تخل من بعض النماذج الباهرة أو الصادمة في السيرة الذاتية مثل:»حياتي»، لأحمد أمين و»جمر ورماد»، لهشام شرابي و»سيرتي الذاتية»، لعبد الرحمن بدوي، و»رحلة جبلية»، لفدوى طوقان، لكن هذه النماذج اللافته تظل قليلة بوجه عام إذا نظرنا بعين الاعتبار لمجموع ما أنجز من سير ذاتية، كما أن مجموع هذه السير يظل متواضعا إذا ما قورن بعدد الكتّاب العرب الذين كان يمكنهم أن يتحفونا بسير ذاتية شائقة، لكنهم آثروا الرحيل واحتفظوا لأنفسهم بكثير مما لا يجب أن يقال!  د. زياد أبو لبن: إن كتابة السيرة الذاتية في الثقافة العربية كتابة انتقائية، في حين إن كتابة السيرة في الثقافة الغربية كتابة وقائع وخبرات حياة دون حذف أو تزويق، مراعاة للمجتمع بما يحمله من دور رقابي – كما يفعل الكاتب العربي- فالكاتب الغربي أكثر مصداقية في كتابة سيرته الذاتية، وإن وجدت في الثقافة العربية كتابات لا تخضع لدور الرقابة السياسية أو الدينية أو الاجتماعية، وهي نادرة جدا، ومثال ذلك سيرة محمد شكري في «الخبز الحافي»، ولويس عوض في «أوراق العمر»، وميخائيل نعيمة «سبعون»، وطه حسين «الأيام»، فإن ثقافة الخوف التي تصنعها الشعوب تمتدّ إلى الكاتب العربي، فيصبح هو رقيب على نفسه، بل هو فاقد لحريته، فكيف به يصنع ثقافة أمّة؟ فلذلك يهرب الكاتب العربية من مواجهة سيرته الذاتية إلى كتابة الرواية، كي يبرر للمجتمع أن هذه أحداث رواية وليست سيرة، لذلك تحتاج ثقافتنا العربية لحرية لا يصنعها مثقف مهزوم على صعيدين: صعيد داخلي وصعيد خارجي.  نايف النوايسة: ما من مثقف الا وله عالم جواني وحياة خاصة رصد فيهما تفاصيل من سيرته الذاتية، وبث صوراً من هذه السيرة في نصوصه الإبداعية، وهو بجميع الاحوال يتحين الفرصة لنشر هذه السيرة بعد ان يتأكد له ان فيها ما يمكن قراءته والاستفادة منها.. لكن الأمر اللافت للنظر هو خوف المثقف من نشر خصوصياته والتي يظنها لا تلاقي عدم الرضا او عدم الاستحسان كونه نشرها في حياته.. وإذا ما استثنينا كبار الساسة فان حظ المثقف في المغامرة بنشر سيرته محدود جداً. . هذا الأمر يدل على قلة الإهتمام بالثقافة والمثقفين وعدم الترحيب بحيواتهم الخاصة بخاصة إذا كان المثقف فقيرا او محدود المكانة الاجتماعية. والامر الاخر هو ما جرت عليه التقاليد بتعظيم قيمة المثقف بعد وفاته فينشرون مذكراته وسيرته الذاتية و الاحتفاء به  على نحو لم يحظ به في حياته.. وفي تقديري هذا خلل في البناء الثقافي واعتبار الثقافة حالة من حالات الترف يمكن الاستغناء عنها.. كما ان المثقف انسان يتلهى ويشتغل في العبث واللاجدوى.. ولا استبعد هنا السطوة الشرسة من السياسي على الثقافي وابعاده من طريقه.. واهم شيء هنا هو عدم ميل دور النشر عن طباعة هذه السير ونشرها لأنها لا تحقق ارباحا لهم..  هزاع البراري: ربما مرد ذلك أن الثقافية العربية لا تحفل كثيراً بالسيرة الذاتية، أي أن يكتب المبدع سيرته الذاتية، قد يكون ذلك لعدم رسوخ الموضوعية لدى الكاتب والتلقي على حد سواء، واعتقد أن ذلك يعود لحضور الشعر القوي في تاريخ العرب، والشعراء العرب خاصة قديماً يميلون إلى الفخر وإعلاء الذات، وتأصيل النسب، والمبالغة في الوصف والتهويل في القوة والشجاعة، والقفز عن الأحداث السلبية والمخجلة، والتقليل من شأن الآخر، وبالتالي فإن بروز هذه العقلية وحضورها القوي في الذاكرة لدى الخاصة والعامة، كانت من أسباب عدم الميل أو تقبل السيرة الذاتية، للاعتقاد أنها غير موضوعية وأنتقائية، وربما مظللة. في العصر الحديث لم يختلف الواقع كثيراً، وإن كان هنالك أعملاً جريئة مثل « الخبز الحافي « لمحمد شكري، لكنها أعمال لم تعمم ولم تتأصل في الحياة الثقافية المعاصرة، فمازالت القيم المستمدة من الدين والعادات والقاليد، تقف عائقاً أمام موضوعية السيرة الذاتية وشموليتها. اعتقد أن الكاتب بدأ يتحرر من هذا الواقع الثقيل، ولكنه تحرر مازال بطيئاً ومتردداً، فالجرأة في كتابة السيرة الذاتية، تتسق مع تحولات المجتمع وتبدل البنية القيمية لدية، ومدى تقبل الناس والأهل والعشيرة، للسيرة الذاتية دون أن يخشى كاتبها الرفض والمواجهة ومحاولات التهميش.

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى