السجون الأردنية / 4 … منصور ضيف الله

السجون الأردنية / 4

دخلت المهجع وخيوط الشمس المسائية تتسلل بخفة ، ترسم بقايا من ضياء حزين ، يمتد على الأسرة . ينفرش على الوجوه المتعبة ، ثم يغادر مع خيوط الدخان المتصاعدة ، ويغيب في الزوايا البعيدة بقية فرح لم يكتمل ، وشقائق نعمان لم تولد ، وحكاية ياسمين تاه أبطالها .

خمسة عشر سجينا يداعبهم الانتظار ، ويراودهم الأمل . كل صباح تولد حكاياهم من جديد ، يبدأون معها حوارا بصيغ شتى ، ويفتحون أبوابا مغلقة ، ومساحات بكرا ، كي يظل حبل الفرج موصولا ، ورفة القلب مسموعة ، ونبض اللقاء حيا . عمير الضلاعين يطرز عبارة فوق رأسه تماما ، غادر عمير ، لم ألتق به ، وظلت عبارته موشومة على الجدار الأصم : “الموت حق ، وأنا أريد حقي” . رواية الحق طويلة ، اختلطت فصولها ، توارت مشاهدها ، وظلت حروفها الشتائية تشرب صمتا صيفيا جنوبيا حزينا .

من يتخيل ان السجون أمكنة عقاب جامدة غبي ، يطل بوجهه والي خراسان “نصر بن سيار” ، ورسالته القصيدة : “أرى خلل الرماد وميض نار” . من العجب أن تغيب محاضرات إعادة التأهيل ، والتثقيف ، لتحل محلها ندوات أخرى ، ومحاضرات أخرى ، تختصر الوجود البشري بأقصى يمين أو يسار . يتحدث الأكثر معرفة ، الأكبر سنا ، ويستمع “الجنائيون” ، أصحاب الضمائر الباحثة عن خلاص . يلتقطون كل نبأة ، تستقر في لاوعيهم ، وتظل تقرع جدران الخزان . لأول مرة ألتقي مع أحد أبناء الحراكات ، أنهى جامعته قبل سبع سنوات ، وظل عاطلا عن العمل . يفسر السياسة من خلال الوظيفة ، ويقفز في مساحات فكرية باندفاع شديد ، بلا اجنحة أو تحرج . على النقيض منه عماني غربي !! يعرف قليلا في الاقتصاد ، في « ليل عمان » ، وروابيها ، حيث المطاعم والملاهي والبارات ، القوى الاقتصادية الجديدة الصاعدة . وتأثيرها على البنية الاجتماعية .

مقالات ذات صلة

الجنوبيون طيبون ، لم أسمع لفظة نابية ، أو موقفا يجافي خلقا ، يكظمون عواطفهم ، ويبردونها بتواشيح الصبر ، وأدعية الفرج . مرة واحدة انفلتت العواطف ، وتوحشت الاهواء ، وتمادت الرغائب ، كان ذلك يوم منازلة الفيصلي والترجي ، طارت أواني البلاستيك في الفضاء ، حلقت الأحذية حلى حواف السقف ، وتعالت الآهات والشتائم . شتائم مؤدبة ، يتبعها اعتذار أكثر تأديبا من الجميع !!

ما كنت أهتم كثيرا بغيابي ، فباب السجن لن يغلق على أحد للأبد ، ولكن الموجع قصص بعض” الأولاد ” ، ممن يعانون بصمت ، ولا أحد ينقل معاناتهم ” وحقهم ” . محمد من حي نزال ، اقترب كثيرا من سريري ، عيناه مثقلتان بدمع دائم ، ورغبة بوح ، وضياع دون عنوان . جلس على حواف السرير . سرد قصته بوجه تختلج تقاطيعه ، وتمتزج أحزانه
وآماله ، منذ أربعة أشهر لم يزره أحد ، لم يأته قرش واحد ، أكثر ما يعذبه شقيقاه الطفلان اليتيمان ، وشقيقته طالبة الكلية . يقر بخطئه في التعاطي ، ويعلن التوبة ، ويطلب الغفران ، ولكن…….. ممن ؟؟ لا أحد يسمع صوته . محمد ؛ الموقوف الإداري ، يعتاش من خدمة الآخرين ، يحترمه الجميع ، ويدعون له بعفو حتى ينعم برعاية أسرته .

شمس الكرك ساطعة ، شعاعها نافذ .. تخترق كل شيء ، وتحيله دوائر ضوء لا تخالطها عتمة أو نفاق !!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. راااااائعة بكل معنى الكلمة….صادقة ادبياتها عالية ، لغتها رائقة ، تحكي عن شريحة لم يحكي عنها احد ….ولم ينقل وجعهم احد…..بلغة شفيفة وخطرة وصادمة ، …هنا يكمن الإبداع والتفرد…دمت صوتا صادحا لمن لا صوت له….وإلى الامام …ننتظر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى