الدين واحد والشرائع متعددة – 2 / : د. هاشم غرايبه

الدين واحد والشرائع متعددة – 2
بعد أن استكمل الله تعالى إنزال الدين إلى البشرية عبر رسل متعددين ورسالات متتالية ، لم يعد من مجال أمام العقل الإنساني غير خيارين إما الإقتناع والقبول ، وإما العناد والرفض ، وبما أنه تعالى فطر الإنسان على تحكيم العقل لذا فقد أتاح له الخيار بين الأمرين ، حتى يحق عليه العقاب أو الثواب ” لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ .. ” ( البقره: 256 ) .
لكن السعادة للإنسان لن تتحقق بتحكيم العقل فقط ، لأنه مقيد بالمدركات الحسية البشرية المحدودة وبخبراته الإستقرائية والتحليلية ، فمثلا لا يمكنك رؤية الجراثيم لكنك مقتنع بوجودها بسبب ثقتك بما قاله العلماء كون ذلك نقلا صادقا عن عالِمٍ صادق .
من هنا جاء النقل الصادق عن طريق أنبياء معروفين بصدقهم ، ومصدرهم الخالق ، أي العقل المطلق والمعرفة المطلقة ، بذلك استكمل النقل ما لم يستطع أن يحيط به العقل لأنه خارج حدود أمكانياته .
من ذلك نصل إلى أن الشرع النهائي ( الإسلام ) استكمل المعرفة الإنسانية ، فباتت التشريعات كاملة لا تحتاج إلى تطوير ولا تعديل ، ومن اختار الأخذ بها ” فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا ” ( تكملة الآية ) أي اختار طريق الفلاح والتي لن يضل بعدها ، وهذا متاح لمن كان كافرا أو مشركا أو ملحدا ، وفي الوقت نفسه من اختار أن يبقى على ضلاله ، فله ذلك ولا يُعضل على الهدى : ” لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ” .
وانطلاقا من المبدأ التخييري ذاته ، فلم تفرض على أتباع الرسالات السماوية السابقة دخول الإسلام ، فقد أرشد الله سبحانه وتعالى نبيه الكريم إلى اتباع الحوار معهم بقوله تعالى : فإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ” ( آل عمران:20 ) ، فإن لم يستجيبوا فاللجوء الى التوافق على القاسم المشترك وهو التوحيد : “قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ” (آل عمران : 64 ) .
كان ذلك العرض هو أقصى التسهيلات الممكنة ، وهو يتضمن التفاهم ، ونبذ التخاصم والعداء ، وعدم التحريض على كراهية الإسلام ولا التحالف مع المعادين له .
وكانت الدولة الإسلامية الفتية تطمح أن تكون مشاعر أتباع الرسالات السماوية إيجابية تجاهها بالحد الأدنى ، أسوة بمشاعر المسلمين نحوهم ، حينما فرحوا بنصر الروم الموحدين على الفرس المشركين ، وبما كانوا يظنونه بهم خيرا حينما لجأوا إلى النجاشي النصراني هربا من بطش المشركين .. هذه المشاعر كانت منطقية افتراضيا كون الإسلام يصدق برسالاتهم ويؤمن بأنبيائهم .
لكن الإستجابة كانت معاكسة للآمال ، فقد تحالف أتباع الرسالة الموسوية مع المشركين ضد المسلمين ، ونقضوا العهود معهم في أحرج الأوقات ( غزوة الأحزاب ) ، فانكشفت نواياهم ، فلم يبق من مجال للتعايش معهم ، بعد إذ أصبح بقاءهم كجزء من مكونات الدولة الإسلامية مثل ” دُمّلٍ ” خبيث يهددها دائما ، عندها صدر الأمر الإلهي بإخراجهم من قلب الدولة الإسلامية ( الجزيرة العربية ) ، وليس من الدولة ككل ، بل بقوا فيها محتفظين بحقوق المواطنة الإعتيادية .
نستخلص من كل ماسبق ، القواعد التالية :-
1 – إن لفظتي ” الدين ” و” الإسلام ” متلازمتان ، وتعنيان الشريعة النهائية المكتملة التي أنزلها الله على العرب وبلسانهم ، ليستوعبوها ويتمثلوها مبدءا وأسلوب حياة ، ومن ثم لينشروها للبشرية جمعاء ، ولا يعني ذلك أنهم مركز الكون ، فهي ليست تشريفا فقط بل هي تكليف مكلف ، وأبلغ دليل على ذلك ما يتعرضون له من أذى لم تلقه أمة غيرهم .
2 – لا تلغي الرسالة الإسلامية رسالات الموحدين من قبلهم ( الصابئين والنصارى والذين هادوا ) ، لكن الأحكام الشرعية كما في كل الدساتير المعدّلة ، تؤخذ من آخر تعديل .
3 – لا يشترط في مواطني الدولة الإسلامية أن يكونوا جميعا مسلمين ولا حتى موحدين ، ولا ينتقص عدم كون المواطن مسلما من حقوقه الأساسية ، وبما أن إسلام المرء ليس بغرض تحقيق ربح دنيوي بل تحمل أعباء و تكاليف طمعا برضا الخالق ، فلا يُلزم غير المسلم بمثل ما يلزم به المسلم من عبادات وفرائض .
4 – لا يجوز تكفير أتباع الرسالات السابقة ، ولا يملك إنسان تحديد إيمان شخص آخر ، فذلك من شأن الخالق جل وعلا ، وهو وحده الذي يُقدّر جزاء الإنسان خيرا أو شرا ، ولا يحق لإنسان الإضطلاع بهذا الدور نيابة عن الخالق ، لأن ذلك شركٌ بيِّنٌ وضلالٌ واضحٌ .
5 – الشرع علم إلهي ، والعقل معرفة إنسانية ، لذلك فالتشريع مقدم على الإجتهاد العقلي إن تعارضا ، وعليه فما توصلت إليه معارف البشر من مباديء ولوائح متعلقة بالحكم ومفاهيم السياسة هي نسبية وظرفية متغيرة ، ولا يمكن الجزم بكمالها في أية حقبة ، وكل سؤال يطرح حول موقف الدولة الإسلامية من قضية ما ، يرجع بشأنه إلى النصوص الشرعية وليس النزعات الإنسانية أوالمفاهيم الظرفية ، فإن لم يكن هنالك حكم شرعي قاطع بشأنه ، فلا يعني ذلك نسيانا من الشارع ( تنزه أن يَضِلّ أو ينسى ) ، بل يعني إشراع الباب للمجتهدين ضمن الضوابط الشرعية .

للإطلاع على المزيد من انتاج الكاتب يرجى الدخول على صفحته على الفيس بوك : صفحة الدكتور هاشم غرايبه

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. سلام اعتقد ان ما جاء في البند الرابع في المقال بحاجة الى اعادة تمحيص

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى