الحوادث الصناعية … معالجة الأسباب لا الأعراض

الحوادث الصناعية … معالجة الأسباب لا الأعراض

بقلم د. عمار سليم الخوالده  

نترحم على شهداء لقمة العيش في #حادثة #الكلورين المؤلمة بمينائنا اليتيم كما ترحمنا من قبل على #شهداء #الصوامع والبحر الميت والسلط وغيرها من الملمات التي عصفت بنا فأبكت بواكيا ويتمت أطفالا وفطرت قلوبا. المحزن في هذا كله أن كثرة #الحوادث في #قطاع #الصناعة في الاردن لم توقظ بعد حس #المسؤولية فيمن بيدهم الأمر لتطوير وتنفيذ استراتيجية واضحة للوقاية من تلك الحوادث او التقليل من آثارها.

في عام 1969 حصدت حوادث العمل في الولايات المتحدة الأمريكية أرواح 14000 شخصا وتسببت بمليوني اصابة مُعيقة، فما كان من الكنغرس الا أن وضع وأقر تشريعا يهدف الى حماية العاملين من مخاطر العمل بما فيها تلك التي تتعلق بالمواد القابلة للإشتعال والسامة والضارة وطرق تصنيعها ونقلها وتخزينها والتعامل معها، اضافة الى حمايتهم من أضرار الضجيج، والاخطار الميكانيكية  وغيرها في أماكن العمل

مقالات ذات صلة

في العام التالي (1970) أنشئت بموجب هذا القانون إدارة الحماية المهنية والصحية كمؤسسة فيدرالية تابعة لوزارة العمل لها سلطة انفاذ القانون، فقامت بدورها الرقابي وساهمت بشكل فعال في التقليل من حوادث العمليات الصناعية، لكن جهودها بقيت قاصرة نسبيا عن درء بعض الحوادث الكبرى كحادثة شركة فيليبس للبترول عام 1989 قرب مدينة هيوستن والتي قتلت 23 شخصا وتركت اكثر من 300 اصابة نتيجة تسرب 39  طن من المواد شديدة الاشتعال أثناء أعمال الصيانة على أحد مفاعلات البولي إثلين.   

في العام 1992 وكنتيجة لكوارث كبرى سابقة وقعت في الصناعات الكيماوية والبترولية في أنحاء العالم كحادثة شركة فيلبس سالفة الذكر، وحادثة تسرب أبخرة “ميثل ايسوسيانيت” السامة في بوبال في الهند  عام 1984 والتي حصدت أرواح أكثر من 3000 شخص وتسببت بحوالي 20000 اصابة، وحادثة فليكسبورو قبلها (عام 1974) في بريطانيا والتي خلفت 28 قتيلا و 36 مصابا نتيجة انفجار ناتج عن تسرب مادة السايكلوهيكسان وغيرها، أصدرت إدارة الحماية المهنية والصحية الأمريكية لائحة معايير إدارة سلامة العمليات والذي يلزم الشركات بحماية موظفيها ضد أخطار العمل فوضعت أربعة عشر بندا ملزما  كالتالي

١. مشاركة الموظفين الفاعلة في اعداد ومراجعة معايير سلامة العمليات. هذه المشاركة تخضع للتدقيق الدوري (كل ثلاث سنوات) وعلى الادارة أن تبين للمدققين و بالوثائق كيفية مشاركة الموظفين في برامج سلامة العمليات. يهدف هذا الى تمكين الموظفين واشراكهم في جهود التشغيل الآمن ليس لاعلامهم وتثقيفهم فقط، بل لأن خبراتهم العملية التشغيلية قد تساهم بتحديد مواضع خطرة لا تخطر على بال من ليس لديهم مثل هذهالخبرات

 ٢. توفير المعلومات  المتعلقة بسلامة العمليات كاملة للعاملين بما فيها المعلومات المتعلقة بالخصائص الخطرة لكل المواد المستعملة وكذلك توفير المعلومات عن المخاطر التشغيلية وغيرها. هذه المعلومات وغيرها يجب أن تكون متوفرة لكل من يتعامل مع هذه المخاطر من مشغلين ومهندسين وعمال وغيرهم

 ٣. دراسات تحليل المخاطر وهي دراسات منهجية ومفصلة للتصميم الهندسي للمصانع للكشف عن أية عيوب تصميمية أو تشغيلية أو ادارية. هذه الدراسات يقوم بها فريق تقني متخصص لكنه متنوع الخبرات فيحدد نقاط الضعف ويتخذ قرارت واضحة وملزمة لينفذها المصنع من أجل درء المخاطر  

 ٤. توثيق الإجراءات (الخطوات التشغيلية) مع توثيق الحدود الآمنة للثوابت والمتغيرات التشغيلية المختلفة  ومخاطر الحيد عنها 

 ٥. التدريب الابتدائي والدوري للعاملين على جميع الاجراءات التشغيلية وتوثيق ذلك خضوعا للتدقيق الدوري

٦. القيام بدراسة تفصيلية لسلامة العمليات قبيل تشغيل الوحدات الانتاجية أو المصنع للتأكد من  (أ) مطابقة ما تم بناؤه وتركيبه مع مواصفات التصميم الهندسي الآمن   (ب) أن الاجراءات (الخطوات) المتعلقة بالسلامة والتشغيل واعمال الصيانة والتعامل مع حالات الطوارئ معدة وموثقة بشكل لائق. وواضح   (ج) أن العاملين قد دربوا تدريبا مفصلا وشاملا على هذه الاجراءات   (د) أن دراسة تحليل المخاطر قد تمت وأن كل القرارات المنبثقة عنها لتجنب المخاطر قد نفذت بشكل مناسب 

 ٧. اعداد برنامج متكامل للسلامة الميكانيكية لضمان ديمومة المعدات وتقليل التآكل وفرص التسرب والانبعاث وذاك بوضع برامج صيانه وقائية ودورية لمنع وقوع الخلل أو لتداركه في مراحله الأولى قبل أن يستفحل أثره

 ٨. اعداد وتطبيق برنامج متكامل لادارة التغيير في التصميم الهندسي أو الاجراءات التشغيلية أو التدريبية أو حتى التغيير في الهيكل التنظيمي للمؤسسة بما في ذلك المراكز القيادية والتقنية لتفادي أي مخاطر جديدة قد يجلبها التغيير . إذ أن كثيرا من الحوادث كان سببها اجراء تغيير في المصنع او المؤسسة دون دراسة وافية ومعرفة للعواقب غير المقصودة 

 ٩. اعداد برنامج مفصل لادارة تنفيذ “الاعمال الساخنة” كعمليات اللحام اوالاعمال التي قد ينتج عنها توليد الشرار  كالاحتكاك الميكانيكي وغيرها  والتي قد تكون نقطة البداية للحرائق والانفجارات  فلا يتم التصريح لهذه الاعمال الا بعد مراجعة شاملة ورقابة صارمة على تنفيذها  

 ١٠. اعداد برنامج سلامة المقاولين أو العمال المتعاقدين، حيث أن مسؤولية رب العمل لا تنتهي عند تأمين سلامة موظفيه بل تتعدى للمقاولين والعاملين بعقود وعمال المياومة بحيث يتم ضمان نقل المعرفة عن المخاطر التي يتضمنها العمل لهم بشكل شفاف وفعال

١١. اعداد خطة شاملة للطوارئ وتدريب العاملين عليها بشكل دوري (تمارين محاكاه (وهمية) مثلا) وضمان أن تبقى هذه الخطة محدّثة بشكل سنوي حتى لا تتقادم تفاصيلها مع التغييرات التي تجري عبر مرور الزمن 

 ١٢. ضمان ألا يحجب صاحب العمل مؤسسة كان أو فردا أية معلومات تتعلق بسلامة العمليات وتحليل المخاطر بحجة حماية الاسرار التجارية او التكنولوجية. طبعا لا يمنع هذا من ضمان حق صاحب العمل الا يتم تسريب هذه الاسرار فله الحق بمطالبة الموظفين التوقيع على أوراق قانونية تلزمهم بعدم تسريب هذه المعلومات أو الافصاح عنها لغير الاغراض التي اعطيت لهم بسببها 

 ١٣. وضع برنامج تدقيق لضمان الامتثال للائحة إدارة سلامة العمليات بعناصرها كافة بحيث تلزم الشركات بإجراء تدقيق شامل كل ثلاث سنوات والعمل على معالجة الاختلالات حيثما وجدت

 ١٤. اعداد برنامج شامل ومفصل للتحقيق في الحوادث حين وقوعها بحيث يتم البدء بعملية التحقيق خلال 48 ساعة بعد وقوع الحادث. وهذا لايعني اتمام التحقيق خلال 48 ساعة بل بدؤه فقط. وعلى الشركة أوالمؤسسة أن تصدر تقريرا نهائيا يوضح فيه ملابسات الحادث والاسباب الرئيسية الجذرية والاسباب المساهمة التي أدت اليه.   

ولأهمية هذا الموضوع فسأسهب  به قليلا خارج الأطر التي حددتها إدارة الحماية المهنية والصحية الأمريكية. دعوني اذكِّر أولا بهيئة حكومية أخرى شكلت عام 1970 بنفس الفترة، الا وهي وكالة الحماية البيئية الأمريكية والتي لها سلطة الادارة والرقابة البيئية وتنفيذ المعايير البيئية ذات البعد القانوني. كلتا المؤسستين لهما صلاحية انفاذ القانون، مراقبة وتحقيقا وتغريما، وهما تابعتان للسلطة التنفيذية (الحكومة). فعند وقوع حادثة ضمن الصلاحيات القانونية لاحداها تقوم تلك الوكالة بالتحقيق في الحادثة وقد تصدر غرامات عند ثبوت المسؤولية أو المخالفة وقد تحيل الملف للقضاء في حالات معينة.

ونظرا لأهمية عنصر التحقيق المفصل في الحوادث ولتحصينه من التجاذبات السياسية المنبثقة عن سطوة السلطة التنفيذية (الحكومة) فقد أنشأ الكونغرس الأمريكي واستنادا لتعديلات قانون “الهواء النظيف” لعام 1990 هيئة تحقيقية مستقلة تماما في الفعاليات التحقيقية التي تقوم بها ولا تخضع فعالياتها تلك للسلطة التنفيذية البتّة مع ان رئيسها وأعضاءها معينون من الرئيس الامريكي ويخضع تعيينهم لموافقة الكونغرس الا ان القانون يعطيهم حصانةً استقلاليةً للقيام بواجباتهم الفنية التحقيقية. تتركز مهمتها في التحقيق في الحوادث وتحديد أسبابها لأخذ العبر و لمنع وقوع حوادث مشابهة في المستقبل.

أنشئت هذه الهيئة عام 1998 تحت اسم مجلس السلامة الكيماوية (مجلس السلامةالكيماوية والتحقيق في المخاطر). يُوظف هذا المجلس محققين ذوي خبرات تقنية هندسية تحقيقية واسعة ليكونوا جاهزين للانطلاق حال وقوع أية حادثة، وهذه نقطة مهمة ينبغي الالتفات اليها بجدية فلجان التحقيق في الحوادث تتطلب معرفة تخصصية دقيقة ولا يجوز أن تنشئ لجنة التحقيق عشوائيا بعد الحوادث كما شاهدنا في الاردن في حادثة الصوامع والكلورين وغيرها، ومن غير المعقول أن تناط رئاسة وعضوية لجنة التحقيق بمسؤولين غير متخصصين من السلطة التنفيذية، فهؤلاء لايمتلكون أية مهارات تحقيقة فنية  تمكنهم من المشاركة بفعاليات تقنية متخصصة كهذه، وفي العادة لا يكفي أن يكون عضو لجنة التحقيق مهندسا كيماويا او دكتورا في الهندسة مثلا فالتحقيق في الحوادث يحتاج إضافة إلى ذلك لخبرات تخصصية دقيقة، لذا يتم توظيف محققين متخصصين كما في حالة مجلس السلامة الكيماوية الامريكي، أما في الشركات الكيماوية بأنواعها، الكبرى والمتوسطة والصغيرة، تناط مهمة التحقيق الداخلي بالحوادث بمتخصصين وخبراء في هذا المجال من دائرة سلامة العمليات والسلامة المهنية والبيئية وهم عادة يتمتعون باستقلالية كبيرة ولا يخضعون لتأثير السلّم الاداري في الشركة.

أمر مهم ينبغي التنويه لهوهو انه في حال وجود شبهة جرمية أو تخريبية (ارهابية) يكون التحقيق ابتداء تحت إمرة الضابطة العدلية (اف بي آي في حالة الولايات المتحدة) فإذا ما ثبت عدم وجود شبهة جرمية، تتنحى الضابطة العدلية وتترك التحقيق كاملا للجان الفنية. حدث هذا في التحقيق في حادثة تحطم طائرة تي دبليو ايه عام 1996 مثلا، اذ وبعد ثبوت عدم وجود شبهة ارهابية تم تسليم التحقيق كاملا للجان الفنية التابعة لمجلس سلامة المواصلات القومي ألامريكي

الأمر المهم هنا هو التمييز بين التحقيق الذي تجريه سلطات انفاذ القانون والتي تركز على تحديد المسؤولية وتغريم المنشآت وانفاذ العقوبات وهذا في العادة لا يكون تحقيقا شاملا بل محدود الاهداف، وذاك الذي تجريه هيئة فنية مستقلة  كمجلس السلامة الكيماوية الامريكي، ذاك ان عمل الأخير لا يتوقف عند تحديد الاسباب التقنية بل يتعداه الى فهم الاسباب الحقيقة والتي قد تكون ادارية او ثقافية (ثقافة السلامة في المنشأة على جميع المستويات) او لها علاقة بفلسفة السلامة في المؤسسة ككل بما فيها دور المدراء التنفيذيين. كما أن سلطات هذا المجلس تحقيقية بحتة اذ ليس لهم صفة انفاذ القانون، لذا يكون التعاون معهم من قبل الشركات او مواقع العمل أفضل لانهم يهدفون الى تحديد مواضع الخلل بهدف تحسينها ونشر الدروس والعبر على نطاق واسع في الفضاء العام.   

ما ينقصنا في الاردن على صعيد الدولة هو وجود بنية تشريعية صلبة يتفرع عنها مؤسسات متخصصة في الرقابة الفنية والقانونية على برامج سلامة العمليات والسلامة المهنية ووجود هيئة او هيئات فنية تحقيقية متخصصة ومستقلة عن السلطة التنفيذية في فعالياتها وان لا نترك التحقيق في الحوادث للجان يتم تشكيلها عشوائيا وعقب وقوع الكارثة دون ضمان لقدراتها الفنية وما تستطيع النظر فيه.   

وما ينقصنا في القطاع الصناعي هو وجود برامج مفصلة لادارة سلامة العمليات والسلامة المهنية والصحية، اذ لا يصح ان نتحدث عن وجود اجراءات للسلامة العامة بل عن برامج ادارة السلامة لان الاجراءات جزء يسير من الصورة الكبرى لضمان التشغيل الآمن للمنشآت.   

شخصيا، تابعت ما جرى ولاحظت أخطاء جلية في التعليق على حادثة الكلورين بعضها جاء على لسان مهندسين او دكاترة في الهندسة لكن المقلق الحقيقي هو في تناول بعض وسائل الاعلام المسموع وخصوصا برامج “الحكي” الصباحي حيث حاول بعضهم التقليل من شأن ما حدث وان مثل هذه الحوادث تقع في كل انحاء العالم وانهم زاروا الميناء ورأوا بأم أعينهم اجراءات السلامة … الخ، مما لا يتوافق والمعرفة التخصصية، فالمتخصصون في هذا المجال يعرفوف تمام المعرفة ان هذه الحوادث وامثالها يمكن منعها اذا ما أخذنا بالأسباب كما أسلفت في هذا المقال.   

نسأل الله الرحمة لمن توفاهم الله والشفاء للمصابين والسلامة لبلدنا وناسنا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى