الحب المُسْتَبِدُّ / د. سمير ايوب

الحب المُسْتَبِدُّ
ثرثرات في الحب

أمضّينا أكثر منْ نصف ساعة ، نُناوِرُ بحثاً عن مكانٍ نَصطفُّ فيه ، قريبا من مطعم هاشم في قعرِعمان . عجِزنا بامتياز . اضطررنا لإيقاف سيارتنا بعيدا عن مقصدنا . سيرا على الأقدام مضينا إلى هناك . إقترح صديقيَ دعوة زوجته لمشاركتنا العشاء ، واستكمال الحوار سوية معها . هاتَفْتُها ، فأقْبَلتْ عليناعلى عجل بأقدام ثابتة ، مكتظة بنظرات حائرة . إنتصبنا واقفين مرحبان بها . تضاحَكْنا بعد أنX احْتضنَت زوجَها ، وتباسطنا بمرحٍ مُتَتال . حتى أفاض الله عليها بسكينةٍ بانَت في عينيها وميضاً جميلا .
ما أن أبلغنا النادل بما انتقينا من طعام ، نقَّلتُ بصريَ مليا بين ضيفيَّ ، بين القلقِ البادي في عينيها، والشرود العشوائي في عينيه ، أمسكتُ خَيطَ دخانٍ ، يُبْقيهما عالقين بأوردة بعض . عاجَلتُها بسؤالٍ مشفقٍ ، أظنها كانت تتوقعه . ما بالكِ يا سيدتي سريعةَ الاشتعالِ والعطبِ ؟! من رَضيتِ به شريكا ، بِأمَسِّ الحاجة للتَّفَهم ، لا لفيوضِ نَقٍّ مُتذمر ، لن يُوَلَّدَ في المحصلة إلا نقّاً مُقابلا . حتى وإن كنتِ تظنين أنَّ خَلْفَ النَّقِّ أشياء جميلة تُخفينها في عباءاته ، فهناك روحٌ أشبعها النقُّ ضجَراً وملأها حَزَناً .
وأضفتُ مُعاتبا : الحب يا سيدتي وأنْ كان نعمةً كبيرةً ، فالنقُّ يحوِّله نقمةً أكبر .ألا تَدرين أنَّ حبَّا ليس فيه من الدسم ، غيرَ الشك والظن والقلق ، هو سديم مثقلٌ بالتَّغاضُبِ والنق ، لا يحتفي بإطمئنانِّ الرضا . هو حبٌّ خائبٌ على الأغلب ، تتقاطع فيه الأزمات ، وترتطم في دهاليزه المحن والهزائم والعجز ، المستنزفة للطاقة ، الهازمة للصبر وحسن الظن .
أشْعلَتْ لزوجها سيجارة كانت حيرى بين أصابع يده اليسرى ، ثم أشْعلَتْ لنفسها واحدة ، نَفثتْ دخانا كثيفا ، إلتمعت عيناها وهي تقول : ليتك تعلم يا شيخنا ، أنَّك الاستثناء الذي أُكلِّمُة بقلبٍ مفتوح ، وأسأله النصح وأنا مُطمئنَّة أنك القوي الأمين ، أعلمُ أنَّ استمرار العتب تعبٌ . وأنَّ أكثر النَّقَّ مُغلِقٌ لمساماتِ التفهم والتفاهم المحتمل . وأزيدك من الشعر بيتا كما تقولون ، أنني أعلمُ فيما أعلم ، أنَّ الحوارَ الناضج هو بوابةُ التجدد السويِّ للمشاعر .
ولكنني يا شيخنا ، امرأةً غيورةً مُستبدة . وهذا فيما أظنُّ طبعٌ لا أملكُ حيالَ قضبانِ سِجنه الكثيرَ منَ الحيَل ، والعسكريتاريا التي إحتضنَتني سنيناً طوالا ، زادتني بالتطبيع حدَّةً وصرامة . ماذا أفعلُ وقد وافق شنُّ الطَّبعِ مُقتضيات التطبيع !!!
لو وَقفتَ على عتباتِ قلبه وقلبي ، ستُدرك على الفور ، أننا نمتلك حبَّا نستحقه . طالما أنَّ الأوان لم يَفُت بعد ، دُلَّنا من فضلك ، كيف نمارس عظَمَته .عَلِّمنا كيف نَكبُرُ ونَصغُرُ مع نظراتنا وإن صمتَتْ . علِّمْني كيف لا أتَدثَّر أنا بفطرتي ، وكيف أقلّمَها لترشيقٍ يُؤهِّلُني لشراكة راشدة ، تُمسكُ بالمشتركٍ وتبتعدُ عن أعشاشِ الدبابير .
قلتُ مقاطعا : الحب كالإيمان يا سيدتي ، صِدْقٌ لا إكراه فيه . وأن الاستبداد فيه ، حاذِفٌ مُتعسفٌ للمشاعر . وأظنك تعلمين أنَّ مشاعرا بلا ديمقراطية لغوٌ فارغ . وأنَّ النق عتابٌ غيرَ ديمقراطي . يستثمره بعض أدعياء الحب ، لأغراضٍ مختلفة بعيدة عن عباءات الحب. لا تنتج تطاولاتها في نهاية الأمر إلا هزيمتها الكبرى .
قالت وهي تناول زوجها المتابع لحوارنا بصمت ، رغيفا ساخنا من سلة الخبز ، وتبتسم لي وهي تناولني رغيفا آخر : أنا في الحب يا شيخنا لستُ منتحلة صفة . أنا أصيلة فيه لا عابرةُ طريق . أعرف من هو زوجي ، وأعرف أني أستحقه ومكتفية به ، وإن ضَللتُ أحيانا في ضواحي الحب وحواريه . ما تُبتُ عن حبه ولا استغفرته ، تميل روحي الى كل تفاصيله ، أغار عليه من عبق الزهور وعشق الياسمين . غيرتي لا تعني قلة ثقة به ، ولكنه أهم خطوطي الحُمْر، التي لا أطيق الزّحام من حولها ، وتجاوزها ممنوع .
طوقها بيمينه . لم تستطع كبح جماح دمعها ، نظرتْ إليه وأرْخَت كفَّها على فخده المجاور لها ، توهَّجَت وجنتاها وشعَّ في عينيها بريقٌ وهي تقول بصوت مرتجف موجَّهٍ لي : إنه كلُّ شيء حولي ، هو وأنا ، نبحث عن هُدىً يا شيخنا . نتمنى عليك أن تُسديَ لنا ما يُيَسِّرُ أمرَنا ، ويُصلح لنا من أمرنا ويبدِّل التباساتَ مخاوفنا بأملٍ قادم . ونَعِدك أن نبذلَ جُهدا لنُحَسِّنَ مِنْ أنفسنا .
ومَضتْ تقول بانفعالٍ وهي تحاول اعتقال تنهيدةٍ بدت مُتَململةً في صدرها : كلُّ مُدخلات الادراك لديَّ ، تَشي بأنِّي من بعده لا سمح الله ، سأبكي على نفسي كثيرا . لنْ أجدَ قلبا كقلبه ، ولنْ أصلحَ للحب ، سأتوه بينَ حُلُمٍ لَمْ يَكتمل وواقعٍ جديد غيرَ مُحتمل . تتشابه أيام نصفَ ربةُ بيت ، وتختلط عندها الوجوه ، ويبدو كل شيء فيها فارغا كئيبا .
قلتُ وأنا أغض من بصري عن دمعها : في ملاعب الحب كُونا كلاعبي كرة القدم ، باحثين عن أهداف تُحققونها بالتعاون ، لا كالحَكَمِ الباحثِ عن أخطاء يَحْتَسبها . كلَّما استنفذ الحب قِواه ، استجمعوها بتجديد أسئلتها الباحثة عن نواقصكما المتقاطعة ، تعرَّفا معا عليها لإعادة ترميم المشترك ومعالجة آثار التفاوت من الرأس حتى القدم ، بعيداً عن مكرِ الكرامة الفردية وضبابها المربك ، وعن مشجب الشك وهوان الإتهام ، ولا يَستقويَنَّ أحدُكما على الآخر بمشجبِ الكمال . اغتنموا حاضرَ الحب فلا وقت للغد فيه . وليس من طبع الليالي الأمان على رأي الفليلسوف العظيم عمر الخيام .لا تغيِّروا شراكتكم ، بل غيّروا طباعها وطرق ممارستها . شراكةٌ مع كبرياء عقيم ، ونق مقيم ، وجع من نوع فاخر . ولكِ أقول يا سيدتي ، أنَّ الرجلُ العاقلَ مِنَّا ، مُستعد للتنازل عن كلِّ ما لديه ، مُقابلَ امراة يساوِرُها القلق عليه ، إذا ما تأخَّرَ عن موعدِ العشاء أوعن موعد الدواء .
بعد الكنافة عند حلويات حبيبة ، رجوتهما أن يشربا قهوتهما وحيدين بدوني ، في مقهى جفرا القريب ، بخفة وأناقة مَضيا كراقصين ، يحيطهما هالة من اللهفة الانيقة . ودَّعتهما ، ومضيتُ سعيدا وحيدا إلى سيارتي على قارعة الطريق هناك .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى