أرضكم رحمكم

أرضكم رحمكم
جمال الدويري

بغمرة الاحتفالات بعودة الباقورة والغمر الى حضن الوطن, وبرغم كل المثبطات والتعليقات والتشكيك احيانا, والسخرية حينا آخر, فقد حز في نفسي وأزعجنى حتى العظم, ما سمعته من احد الأرادنة المجتمعين هناك في موقع الاحتفال في الغمر, وعلى بساطته ومباشرة حديثه, اذ قال: اخذوها, ويعني اليهود, صحراء قاحلة, وأخذناها مشتثمرة ومزروعة وبيوت بلاستيكية, مظهرا فرحته العارمة بهذه القيمة المضافة.
وقد يوحي لسان حال هذا الاردني وقوله, وغيره من التعليقات والتساؤلات, عما ستؤول اليه اراضينا المستعادة, وكيف ستكون بعد حين, وكأن الارادنة لا يتقنون تخضير الصحراء ورعاية الأرض وخدمة الوطن, وهم الحراثون الفلاحون بالفطرة, يعشقون رائحة التراب, حتى انهم نخلوه لحفاظات المواليد, منذ الصرخة الأولى, بديلا كفؤا لبودرة ايف سان لوران وغيرها, ولا يجاريهم احد بتعمير ورعاية حواكير المنزل وعرائش الكرمة وزرع الحياة في الجبل والسهل وحواف الصخر, تينا وزيتونا ورمانا, وكم بذل الآباء والأجداد من جهد وعرق ووجدان خضّر السهول وداعبت السنابل وراكمت البيادر وملأت الكوائر وزودت الصاجات والأفران بمستلزمات الكرامة, وشهد من خبز وأقراص عيد. وجل عيدهم ومعظم أعراسهم وأفراحهم كانت تواكب مواعيد الجنا وحصاد الخير, مما يدل على ارتباطهم الوجداني الحثيث مع الأرض والعمل بها.
ولكنها, وبلا مواربة او (صيب او دحي), مؤامرة السياسة وإخفاقات السياسيين, وفشلهم بإدارة الأرض والزراعة, وتغريب المواطن عن ارضه ورغيف خبزة, حتى أصبحنا عالة على انفسنا, وعبئا على ارضنا, مستهلكين لا منتجين, نشتري الخبز بدل صنعه, ونستورد الخضراوات بدل انتاجها, ونتسول فضلات العالم من السمك (بلا رأس) بدل ان نسأل الله وبحرنا العطاء والرزق.
وقد نجح الصلعان والدخلاء, بفك اشتباك الأردنيين مع ارضهم وزراعتهم, فباعوها لشراء السيارات, وقطعوا اشجارهم ليبنوا الدواوين وغرف النوم, واصطفوا على ابواب الأفران الآلية, بدل ان يعطروا مساكنهم برائحة الطابون وعبير منتجه الصحي الشهي, حتى لم تعد تجد في بيت اردني, عراما من بر او حفنة من دقيق, لظرف طارئ او وحمة حامل.
ان زرعنا خسرنا, وان لم نفعل جعنا وأكلنا منتجات من الدرجة الدنيا قيمة وجودة, وبالعصا وغصبا عنا, وأيمان الطلاق واستعراض الذكورة للفاسدين وطغمتهم, تشهد على عبور حمولات السفن التي لفظها الغير ورفضها الجوار.
وعماد الزراعة من مياهنا الجوفية ومخزوننا الاستراتيجي من مياه الشفة حتى, يبددها متنفذون في مزارعهم وبرك سباحة قصورهم وغسيل سياراتهم, الى جانب استثماراتهم الزراعية الكبرى, التي لا يراها الوطن ولا يشتم لثمارها رائحة, ودون حسيب او رقيب او مراعاة للعدالة والمساواة وتكافؤ الفرص.
اعطوا فلاحنا بعض الأمل, وشيئا مما تحت ارضه من ماء وخير, وامنحوه الفرصة بالتسويق واسترداد بعضا من تعبه, وسترون الصحراء جنة والجبال والهضاب نعيما, وتطيب اللقمة ويهنو العيش, وسوف تكون بيوت الباقورة والغمر البلاستيكية, التي نهب مزارعوها من الصهاينة مياهها الجوفية لربع قرن مضى وينيف, ليست الا نموذجا بسيطا لخبرة فلاحنا وقدرته على صنع المستحيل, لأنه يتفوق على الجميع بحبه لارضه وانتمائه لوطنه, وما استطاعه وأتقنه الآباء والأجداد, لن يعجز عنه الأبناء والأحفاد, سيما ان البطالة تشل الكثيرين, والعوز والفاقة تطحن عظام الغالبية.
الأرادنة ملح الأرض وسلسبيل ينابيعها وشهد عطائها, كل منا وصفي التل بالعشق الفطري للشجرة والخضرة والفدان والمحراث ورائحة التراب المشتيّ, نتوق للفلاحة وقهر البور وزرع العفير وشكارة القطانة بأنواعها, لنأكل من طوابيننا وجريشنا وما تجود به ارضنا, فخذوا المناصب والمكاسب, واتركوا لنا وطنا نتدبر امره بأنفسنا وندير ثرواته كما نريد وينبغي.
ولمن يطالبون بالأمس, بل يستجدون استثمارات خارجية كبرى في الباقورة والغمر, على حساب بيع الأرض مجددا ورهنها لمن لا ينتمون لها ولا يفهمون لغتها, ولا يتقنون الاستماع لنسغ نبتها ودحنونها, اقول: اتقوا الله بوطنكم, وعضّوا عليه بالنواجذ والأسنان, وأحبوه يحبكم, ولا تعطوا الحيتان والقروش, أصحاب القروش والكروش, فرصة للمساومة من جديد, واستعبادكم في ارضكم من جديد. أرضكم رحمكم, فلا تستبضعوا بها من غيركم.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى