أبو يوسف ; مطعم البسطاء علی أرصفة العبثية

أبو يوسف ; مطعم البسطاء علی أرصفة العبثية
شبلي العجارمة

مادبا جدران الياسمين علی بسملات شفاه الحجارة العتيقة,أو ميدبا المٶابية ,أو عاصمة الفن والفسيفساء ,بين أزقتها الکنتورية ودروبها المتشعبة هامشُُ من الأرصفة العبثية إذ تحمل عتبات البيوت القديمة والحانات والدکاکين التي تحمل صمت الماضي في صدی الحاضر الفوضوي الصاخب .
بين هذه الفسيفساء المتتاقضة يقف مطعم خير الله المعروف بوسم مطعم “أبو يوسف” ,هذا المعلم الذي لا زالت أکف أبي يوسف تحمل روح النکهة وأٓصالة المذاق منذ ستين عاماً ونيف بحطة رأسه الفلسطينية الزرقاء وعقاله الأسود الذي يحمل کل رواٸح العصور التي مرت علی لثامها البکر وعبرت إلی سدانة التاريخ وخزانة معجم الموروث الأصيل .
علی رصيف الحصی المنسي وفوق مناضده المبعثرة ومقاعده المشكلة تستوي زباٸن مطعم أبي يوسف ,هنا جلس الحراث وهناك بحث الوزير عن الظل بين خشخشات الهشير وتحت ظل شجر الزعرور,ضجيج السيارات التي تعبر الشارع وفضول المارة لا يهزم رغبة شهوة المذاق وشراهة تناول أطباق أبي يوسف التي لم يتغير کل طقوسها ولا بروتوکولها منذ ذلك الزمن البعيد ;بين يدي النادل طبقُُ من الألمنيوم السدر وفوقه صحن الفول الطبيعي وطبق البيض المقلي بزيت الزيتون ورغيف خبز الطابون زجاجة ماءٍ مثلجة وکأس وصحن مقبلات الستين عاماً الذي يحوي الطماطم المشرحة والفلفل الحار الأخضر والبصل وهنا غطاءان للقطرميزات أحدهما يحمل الملح المکشوف والأٓخر الشطة البيتية الحارة ولا زيادة علی ذلك إلا ما يريده الزبون ولا نقص في أية فاصلة أٛخری.
القارمة المتواضعة التي لا زالت تحمل رقم هاتف المطعم الأرضي رغم فوضی الهواتف الخلوية هي ليست أيقونة جلب الزباٸن ولا فضول المارة لما شاهدوا هذه القارمة ,حتی أن فاتورة الحساب مثل أحرف الهجاء وجدول الضرب وحدود جغرافيا الوطن درس يحفظه المادباويون جيداً وکل زواره وزباٸنه ,أبو يوسف کما حمل برکة النکهة من کفيه الدافٸتين حمل الزهد في السعر وحرص علی أن لا يجعل من سور الطمع والجشع ما يحول بينه وبين زباٸنه الذين أحبهم وأحبوه .
تتهافت الخواطر والقلوب علی هذا المطعم المهمش سياحياً والصرح التراثي الذي صار مثل تلال نيبو والأديرة القديمة وشارع العشاق ,يطمح زاٸر مادبا القادم من الجوار أو من أصقاع أوروبا وتمثال حرية أمريکيا وجليد روسيا بالتنزه المجاني علی خربشات الحصی علی قدميه ووخز الشوك الفاٸض عن حاجة الحاکورة المقابلة لمطعم أبي يوسف ,کل ذلك من أجل سحر الحکاية التي نسجتها أکف العم أبو يوسف وروحه المسكونة بالبرکة والحرص علی الأٓصالة والموروث الشعبي والإبقاء علی عروة الزمن العتيق موصولةً بأزرار الحاضر الهارب المتنکب والمنکر لکل هذه المعاني.
علی عاتق من يحملون هم المدينة هناك تقع مسٶولية تشذيب الرصيف ,وعلی کاهل المنظرين أيضاً هناك تقع المهام الجسام للاحتقاء أکثر بالمکان الذي احتضن الضمير والزهد والإتقان ,وعلی من يصورون المشهد داخل قاعات الزرکشات وخلف جدران البث الملون والمنمق توجب إبراز رصيف أبي يوسف بطريقةٍ تليق برواده وزاٸريه الذين يلتقطون الصور تعبيراً عن دهشتهم ومحبتهم وشکرهم لأبي يوسف الذي لا زال يحمل مذاقهم ويحرس علی حضورهم ويحتفي بهم علی طريقته الخاصة وبروتوکوله البسيط مراهناً علی مغزل کفيه وعدسة عينيه ومقاديره السرية التي تشبه شيفرة صواريخ واشنطن النووية .
فهل سيمر يوماً علی زوار أبي يوسف ويلتقطون صوراً ْجديدة تعني لهم المفارقة واختلاف المشهد مع بقاء روح المکان براٸحته وذاٸقته ضمن عنوانه البسيط ورصيفه الأکثر بساطة وربانه الذي لا زال يقود دفة الزهد والمحبة والعتاقة والدهشة بازدحام الحضور !.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى