“بين “لجوئين ” / تيسير العمر

“بين “لجوئين ”
تيسير العمر

واحدٌ من أهم المواقف التي مرّت بي ومررت بها، يوم ذهابي للزعاتري مخيم “اللّاجئين السّوريّين “..لم أكن أعلم أنّ البشر يمكن أن يتم تدجينهم على هذا النّحو القاسي، كان كلّ ما أعرفه عن الوطن بأنه تلك الجنّة الّتي ليس لها من بديل، فكيف اقتنع هذا العالم بخيمة صغيرة لا تردّ برد الشّتاء ولا حرّ الصيّف كبديل عن تلك الجنّة ! .. كلّ الأماكن متشابهة، العالم هناك نسخة واحدة لا وجود للألوان فيها.. كان المكان رماديًّا باهتًا خاليًا من كل لونٍ بهيج، إنّه انعكاس حقيقيّ وملموس لرماديّة هذا العالم ونفاقه، الخيمة تتلوها الخيمة الخيبة تتلوها الخيبة ،فعلًا ما أشبه اليوم بالبارحة، لن أقول: ” إنّ التاريخ يعيد نفسه” بل إنّ البشر يعيدون ظلمهم وجورهم ؛ فمشهد “اللّاجئين” السّوريّين في 2011، هو صورة طبق الأصل عن مخيّمات “اللّاجئين” الفلسطينيّن في 1948.. ولماذا الاختلاف أصلًا؟! ألسنا جميعًا بلدًا وشعبًا واحدًا نتشارك نفس الظّروف ويحكمنا ذات المصير؟ كلّما تفرّست الوجوه والأشياء وجدت اختلافًا مّا، لكنّ قاسمًا كان المشترك من بين كل الاختلافات : كان صبغة الحزن ونكهة الأسى.. لعلّ كلمة مخيّم جاءت من فكرة تخييم الحزن والمأساة على كل من فقد وطنه وكُتب عليه العيش في” مخيّم “.. لا أدري كيف اقتنع أشرار العالم بهذه المهزلة: عندمـا يُجتثُّ الإنسان من جذوره وذكرياته وامتدادته، ليعوّض بخيمة مطبوعًا عليها شعار حقوق الإنسان !

إن هذه لنتيجة طبيعية _ على ما تبدو عليه من الغرابة_ في عالم رُفعت فيه أقلام الحقّ وجفّت فيه صحف الصدق والإنسانيّة…
ولأنّ الأمل عادةً ما يولد من رحم الألم، لم تخلُ حياة “اللّاجئين ” من أمل العيش والإصرار على الحياة إذا ما استطاعوا إليها سبيلًا.. فترى منظر الطّفولة الحالمة متجليّةً بأولئك الأطفال الّذين يتراكضون بين شوارع المخيّم ودروبه الضّيقة، لا همّ لهم إلّا أن يلعبوا بكرتهم غير عابئين بطيش صبيان السّياسة الّذين حوّلوا الأرض إلى كرة تتقاذفها موازين قواهم ومصالحهم الأنانيّة الضّيّقة غير عابئين بمصائر النّاس الّذين كان كلّ همّهم في الحياة أن يكونوا آمنين في أسرابهم معافين في أبدانهم وأوطانهم.. وأنت تسير في المخيّم، يختلج صدرك بألف شعور، وتنتابك أحساسيس من الأسى لا حصر لها ، وتنبعث روحا نزار قباني ومحمود درويش مخترقتين حاجز الزمن ليهمس محمود درويش في أذنك: “وأنتَ تعودُ إلى البيت، بيتكَ، فكِّر بغيركَ.. لا تنس شعب الخيامْ
وأنت تنام وتُحصي الكواكبَ، فكِّر بغيركَ..ثمّةَ مَنْ لم يجد حيّزًا للمنام..وأنت تفكر بالآخرين البعيدين، فكِّر بنفسك
قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظّلام! ” ويتردد صدى أنين نزار قباني في وجدانك: ” قرّرتُ
يا وطني اغتيالَكَ بالسفَرْ.. وحجزتُ تذكرتي ،وودّعتُ السّنابلَ ، والجداولَ ، والشَّجرْ وأخذتُ في جيبي تصاويرَ الحقولِ ، أخذتُ إمضاءَ القمرْ وأخذتُ وجهَ حبيبتي وأخذتُ رائحةَ المطرْ .. قلبي عليكَ .. وأنتَ يا وطني تنامُ على حَجَرْ!

مقالات ذات صلة
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى