شمعة كفافي / خيري منصور

شمعة كفافي

ثلاث مرات لعبت فيها الإسكندرية دور الندّاهة بالنسبة لي، كانت المرة الأولى أثناء قراءتي لـ«رباعية الإسكندرية» رواية لورنس داريل التي وصفها سارتر بأنها الأفضل بين روايات النصف الثاني من القرن العشرين، فما أن شرعت في قراءة الجزء الأول منها، وهو جوستين وكنت طالبا في القاهرة حتى وجدت نفسي أصغي مع البطلة، التي تقف أمام مرآة فضية مشوبة بالغبار في مدخل فندق سيسيل، للصمت المنبعث من طرابيش رجال يلعبون الشطرنج في بهو الفندق، وبعد بضع ساعات فقط كنت أصلح من وضع ياقة قميصي أمام المرآة ذاتها، وتذكرت على الفور ما قاله الراوي عن جوستين، وهو أن النساء دائمات الشكوى من شحة الإضاءة حين ينظرن إلى شعرهن أو كحلهن أمام مرايا يعلوها الغبار، لكن الرجال أقل اكتراثا بذلك.
والمرة الثانية بعد قراءة رواية «ميرامار» لنجيب محفوظ فقد أكملت الرواية في القطار وأنا في طريقي إلى بنسيون ميرامار في الإسكندرية، لأكون النزيل التاسع مع طلبة مرزوق وسرحان البحيري وزهرة وصاحبة البنسيون اليونانية ماريانا وآخرين.
والمرة الثالثة وقد لا تكون الأخيرة التي ندهتني فيها الإسكندرية، التي قال عنها الروائي أدوارد خرّاط أن ترابها زعفران، هي قراءتي لما كتبه البروفيسور باورا في كتابه عن التجربة الخلاقة عن كفافي، الشاعر اليوناني الأصل الذي استغرقته نوستالجيا إغريقية ترشح منها الأساطير وعاش وحيدا في منزل تدخل إليه الشمس على استحياء، وفي العزلة المضاءة بشاعرية فذة كتب كفافي قصائده التي ترجمت مرات عديدة إلى العربية، ومنها ترجمة الشاعر سعدي يوسف الذي اقترب من كفافي مثلما اقترب من يانيس ريتسوس وأصغى لأنفاسهما، فكانت ترجمة خلاقة، بحيث يذكر قارئه العربي بما قاله جيته عن ترجمة جيراردي نيرفال لقصائده من الألمانية إلى الفرنسية، فقد قال جيته إن الشعر الذي أراد أن يبدعه هو ما جاء في ترجمة نيرفال باللغة الفرنسية.
وقصائد كفافي الأكثر شهرة وهي، «المدينة» و«الطريق إلى إيثاكا» و«الشيخوخة» تصيب من يقرأها بالتصادي والتعايش، وتغير لا في مزاجه فقط، بل في صميم رؤاه للزمن والموت والشعور بالوحدة، وفي قصيدة «المدينة» التي يقول فيها أن من خرّب حياته هنا في هذه المدينة بالذات وفي هذا الزقاق بالذات، سيصاحبه الخراب أينما ارتحل، لهذا عليه أن لا يحاول الإفلات من الذاكرة التي تقضم ما تبقى له من ايام.
أما «الطريق إلى إيثاكا» فهي موعظة للحالم بأن لا يصل حيث يشتهي الوصول، لأن الحنين إلى إيثاكا أهم وأجمل من بلوغها، وتذكرنا هذه القصيدة بقصيدة للشاعر بريخت عن مديــــنة أســـطورية اسمها بيلارس، فمن يصل إليها يشفى من مرضه ويعود إلى ربيع شبابه وتتحقق كل أحلامه، لكن الناس الذين كانوا يحلمون بالوصول إلى بيلارس صحوا ذات صباح على نبأ فاجع هو أن بيلارس دمرها الزلزال.
واقترنت قصيدة كفافي عن «الشيخوخة» بمشهد لن أنساه ما دمت حيا، وهو إنني كنت في صحبة الصديق الشاعر الراحل عبد الوهاب البياتي في القاهرة، وطلب مني أن نذهب إلى مقهى أكسيلسيور في شارع سليمان باشا، وجلسنا نشرب القهوة ثم استغرق البياتي في رواية ذكرياته في المقهى وفي مقهى آخر مجاور اسمه لابّاس، وسرعان ما ناء بالذكريات وتركته يغفو فيما كانت قهوته تبرد، وكان ذلك المشهد أشبه بفيديو كليب لقصيدة كفافي، لأن الرجل الذي ينوء بما يحمل من ذكريات يغفو في المقهى تاركا قهوته تبرد إلى الأبد.
كان كفافي يضيء شمعة واحدة في بيته الصغير شحيح الإضاءة، وعندما يطرق بابه زائر حتى لو كان من أعز الأصدقاء يشعل أمامه شمعة ثانية، وحين يشعر بالضجر أو بالحاجة إلى العزلة، يطفئ شمعة الضيف، فينهض عن مقعده على الفور ويغادر المنزل بصمت شجي يرشح منه العتاب الحميم.
عاش كفـــافي خارج نطاق الزمن الأوروبي في النصف الأول من القرن العشـــرين، بل عاش خارج كل نطاق كما يقــول باورا، باســـتثناء النطاق الإغريقي وهنا يكمن امتــــيازه وتفرده تماما، كما لجأ شاعران آخران هما ييتس وأليوت إلى الأساطير والعالم الأنثروبولوجي، لكن اتجاه كفـــافي إلى الماضي الهيليني الإسكندري منحه قدرة اضافية على التحليق بعيدا عن جاذبية الواقع الذي كان مقسما بين حربين عالميتين وصراعات أيديولوجية أفرزت ثقافة مجنونة.
وقد تكون إعادة قراءة كفافي في أيامنا بمثابة إعادة البحث عن شعرية غاربة، وعن أسئلة وجودية بلا إجابة إلا ما تيسّر من محاولات ميتافيزيقية في عالم فيزيقي حتى التوحش، وقد أحسست بعد قراءة كفافي للمرة الثانية بما أحس به ستاينر حين قرأ رواية «التحول» لكافكا، وهو أنه لم يعد بعد قراءتها مثلما كان قبل ذلك، وأصبح حين يصحو من النوم كل صباح يهرع نحو المرآة ليتأكد من أنه لم يعد مُسخا، كما حدث لسامسا بطل رواية كافكا.
أما شمعة كفافي الوحيدة فقد تولى الزمن إطفاءها لحظة رحيله.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى