يا صاحبي السجن / وائل أحمد مكاحلة

يا صاحبي السجن
إستيقظ من نومه على صوت قرع حديد زنزانته الذي اعتاده من سجانيه، نظر إلى الموجودات من حوله بعينين مغمضتين من أثر السهر.. يمينا فشمالا، ثم رنا نحو نافذة الزنزانة التي بدت مثل قميص مخطط بالطول.. خط بلون قضبان الحديد وآخر بلون سماء الصباح البكر، حك ذقنه النامية وهو يلوك بفمه أشياء لا وجود لها كعادة المستيقظين، إعتدل في فراشه ووجهه يتقلص إثر ضوء مفاجئ بهر عينيه للوهلة الأولى، وحين اعتادت عيناه النور.. وقعتا على رزنامة الصبر التي يعلقها المساجين على حائط مشروخ كي يحسبوا الأيام والليالي في بعد الأحبة والنور والحرية..

إقتربت ساعة الفرج.. كذا قال لنفسه وهو يبتسم ممنيا نفسه بملذات افتقدها طويلا، أحصى الأيام على أصابعه الغليظة سريعا وهو يتجه إلى دورة المياه، لحظات وعلا صوت طراد المياه ثم خرج حاملا منشفة الوجه على كتف منامته الرمادية وتوجه إلى قاعة الطعام، نصف ساعة من القضم والبلع وقرقرة الشاي على شفتيه مع ثرثرة لا بد منها مع رفاق السجن، خرج بعدها إلى الفناء حيث الشمس والتريّض..

هكذا قضى صاحبنا عشرين عاما خلف القضبان، حيث تتوقف ساعات الزمن ولا تعود للتكنولوجيا أية أهمية.. سوى تسخين المياه وتشغيل التلفاز الوحيد الذي يجتمعون عليه كل مساء..

على الجانب الآخر من المدينة بيت.. ليس ككل البيوت، سكانه ملائكة صغار يتوضأون صباحا على رائحة القهوة التي ما زالت تعبق زاوية حجرة المعيشة منذ التسعينيات، وإن طغت رائحة البخور صباح الجمعة على رائحة القهوة.. تيمموا بقبعة عسكرية تُركت معلقة على الجدار تذكرهم بماضٍ كانوا فيه أسرة تستظل بظل الله.. ورزق قليل مبارك فيه يكفي الصغار حليبا وأقمطة، ويكفي الكبار صحن عدس أو طبق أرز يحمدون الله كثيرا عليه، يطالعون صورة على الجدار ترمز إلى عمود بيت ودرع أمان وكرامة وطن.. يؤدون أمامها يوميا طقوس الأبناء أمام آبائهم.. يسمعون صوتا قادما من تلافيف أدمغتهم يتمتم:

مقالات ذات صلة

– هل درستم اليوم؟
– وأدينا واجباتنا أيضا يا أبي..
– هل قبلتم يد جدتكم؟..
– أختي لم تفعل يا أبي..
– لا تصدقه يا أبي.. هو كاذب..
– تؤ تؤ تؤ.. كم مرة نبهتكم ألا تصموا بعضكم بألفاظ نابية؟.. سأعاقبكم بشدة..
– لن نكررها يا أبي..
– سأعود يوما لأتأكد من توبتكم..
– متى يا أبي؟.. متى تعود؟!
– لن أتأخر يا صغاري.. إن هي إلا سنوات.. سلموا على أمكم وصبّروها حتى أخرج..

عشرون عاما مرت وما زالت الصورة تراوح مكانها صامتة ساكنة تضج بألف نصيحة وألف “بهدلة” وألف كلمة شوق.. لا يسمعها إلا أصحابها الذين سكنهم حزن النوى..

نعود إلى صاحبنا الذي لملم حقيبته وتأكد من هندامه أمام مرآة مكسورة.. ونظر إلى الزنزانة نظرة قرف، ثم استدار إلى صاحبيه الذين شاركاه جلّ سنوات الكرب وقال:

– “يا صاحبي السجن أبطولة يحكي بها الصغير قبل الكبير.. أم جريمة يصمكم بها السجن بالعار إلى الابد؟!..

يا صاحبي السجن أنا كداخل الجنة بعد أن أعيته حياة السجون.. في الخارج ما لا عين رأت ولا أذن سمعت..

أنا خارج بعد أن أتعبني البقاء..
أنا خارج.. فالأرض فيها العطر والنساء”..

ثم هز حاجبيه بتحية تهكم.. وخرج لتستقبله جموع المخدوعين الذين أفنوا جذوة العمر في البحث عن بطل في زمن أبطال الديجيتال..

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى