وَهمُ العَظَمَة / هبة إميل العكشة

وَهمُ العَظَمَة

ما زلت أذكر ذلك اليوم جيدا ً, حينها كنت لا أزال على مقاعد الدراسة في الجامعة الاردنية , كانت نهاية أسبوع حافل بالامتحانات و التفاؤل و النجاح و خيبات الأمل ؛ فلم تعد خيبات الأمل شيئاً جديداً مذ دخلت الجامعة و خرجت من عالمي المثالي الصغير… فصوت كنترول الباص الذي انتهر إمرأة عجوز لأنها تعثّرت أثناء صعودها الباص لم يفارق مسمعي , لم يأبه للأكياس الثقيلة التي كانت تحملها و لا لأقدامها المنهكة , كل ما أراده هو صعودها بسرعة ؛ فكما تعلمون, نحن شعب يحب السرعة و يحب أن يستثمر وقته الثمين , حتى و لو كان على حساب مشاعر الآخرين أو حتى على حساب حياتهم … فسائق الباص لا يأبه للأرواح التي بين يديه عندما يسابق باصا ً آخر من أجل الحصول على راكب ..أو بالأحرى على بعض قروش… ففي عالم الباصات للراكب قيمة مادية فقط!
بعدها أصل الجامعة لأرى شاباً يبصق على الأرض و يتابع سيره ضاحكاً مع صديقه الذي يدخّن و يلقي بعلبة سجائره الفارغة على الأرض , ليأتـي رجل “قد أبوه” ليرفعها عن الأرض و يضعها في إحدى سلال القمامة التي تملأ الجامعة.
و في آخر هذا النهار “الاعتيادي” يأتي محاضري في مادة العلوم العسكرية و يستهلّ كلامه متحدثاً عن جهاز الدفاع المدني: ” إن جهاز الدفاع المدني .. جهاز عظيم ,أسسه ملك عظيم .. لشعب عظيم … “. قال ذلك و تعلو وجهه ابتسامة فرضتها عليه عاطفته الوطنية القوية.
جاءت عبارة “شعب عظيم” كدعابة في آخر ذلك النهار !!!
تابع حديثه قائلاً : “إحنا – أي رجال الدفاع المدني- ما بنستنا من الناس اشي غير كلمة (شكرًا) لكن حتى كلمة (شكراً) ما بنسمعها !”
كان كل شيء يبدو متناقضاً ً… عن أي شعب يتحدث ؟! عن الشعب الذي قابلته أنا هذا الصباح أم ذلك الشعب الذي قال هو بنفسه أنه يتمنى أن يسمع منه كلمة (شكراً) بعد أن يؤدي واجبه ؟!
عندما أوشكت المحاضرة على الانتهاء لم أتردد في سؤاله عن سبب “عظمتنا” كما وصفنا في بداية حديثه , أجابني مستنكرا ً :” طبعاً إحنا شعب عظيم .. عنا كرم و نخوة و أصالة ! ”
لم أدرك إنتهاء الإجابة إلا عندما همّ الطلبة بالرحيل ….
وعرفت حينها أن أكبر خطر قد يهدد شعباً هو ” وَهمُ العَظَمَة ” , و تذكرت ما قاله الروائي المصري بهاء طاهر:
” يجب أن نننتهي من كل قصص الأجداد ليفيق الأحفاد من وهم العظمة و العزاء الكاذب. ”
يومها علمتني مادة العلوم العسكرية ما ليس ضمن مقررها الدراسي , علمتني أننا لن نكون عظماء إلا إذا أدركنا حقيقة أننا لسنا كذلك , الكرم و النخوة و الأصالة أشياء صنعت مجد أجدادنا لكنها لن تصنع مجدنا الحاضر.
سنكون شعباً عظيماً ً عندما يساعد الكنترول تلك السيدة العجوز على صعود الباص و عندما أجلس في الباص و أنا لا أفكر بأن نهايتي ستكون على يد ذلك السائق و عندما يلقي ذلك الشاب علبة سجائره في سلة القمامة و عندما نتعلّم أن نقول (شكراً ً ) لرجل الدفاع المدنيّ !

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى