وإذا أتتك … / يوسف غيشان

وإذا أتتك …
يا الله !! ما اشطرنا نحن الأعاريب المستعربة والمستغربة في تأليف وتوليف وابتكار العبارات القاطعة التي لا تقبل النقاش ولا النقد ولا يخرّ منها الماء ولا الهواء .. إنها قنابل لغوية تفجرها في وجوه الخصوم والأصدقاء فيفتحون افواههم مدهوشين، ويتفحمون عاجزين عن الرد والصد.
طبعا تراثنا العربي مكتظ بهكذا عبارات وحكم ومأثورات وأقوال وأشعار وتشبيهات ضمنية ومكنية وشوربة شعيرية ، لكني هنا سوف أناقش مفهوم بيت شعر المتنبي الذي نطلقه في وجوه منتقدينا ،فنسقطهم بالضربة القاضية ، وهو البيت الذي تعرفونه جميعا وربما استخدمه بعضكم … انه البيت الذي يقول::
إذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني كامل
فأنت أولا تتهم الآخر بأنه ناقص ، ربما ناقص عقل ودين وأخلاق وعلم.. وكل شيء، المشكلة ان الأخر يسلم في الأمر ..وهذا ما يؤهله للتسليم بعجز البيت ، والاعتراف للآخر بأنه كامل وان ما قاله بحقه هو هراء في هراء في هراء.
حتى لو سلمنا بمقولة الشطر الأول ، فهل كل نقد يصدر عن شخص ناقص هو شهادة بالكمال للآخر؟؟ ومتى كان الكامل يحتاج إلى شهادة من الناقص؟؟؟؟ وهل هناك إنسان كامل أصلا ؟؟؟؟ السنا ناقصين جميعا ،بلا استثناء ؟؟؟
ما عليّ إذا ، سوى جمع مهابيل ومساطيل الحارة ورشوتهم من اجل سبّي وشتمي وتحقيري ،فتعترف الحارة بكمالي وتعيّنني مختارا أو عمدة أو عميدا لها، ثم أجمع مساطيل القرية ليشتموني ، فأصير رئيسا للمجلس القروي ، وكذلك افعل في المدينة ليتم انتخابي ممثلا لها في البرلمان ، فأفعل ذلك هناك لأصير رئيسا للبرلمان ، ثم أقوم بتشكيل الوزارة وهناك استدرج البلد كلها لشتمي ، فأصير رئيسا للدولة ، ثم ابحث عن مبررات لتشتمني الشعوب العربية ، فأصير زعيما أوحد للعالم العربي …. كل هذه لأن مجموعة من المهابيل الناقصين قد شتموني في الحارة .
يا الله ما أسهل نيل العلى والمعالي في العالم العربي !!… مسكين المتنبي – مقترف بيت الشعر المذكور- الذي افنى عمره يهجو ويمدح ويتذبذب للي بسوى واللي ما بسوى ،من اجل الحصول على ولاية مدينة صغيرة مثل (صور) التي مدح من اجلها كافور الإخشيدي لكنه لم يعطه إياها رحمة بأهلها، وقال ما معناه:
– إذا كنا نحن هنا لا نطيقه ، فكيف يطيقه أهل المدينة!!!
بالمحصلة ، فإن المتنبي الذي جمع أطنانا من الأعداء فشل في ان يصير واليا لمدينة صغيرة ، لكن حكمته ظلت نبراسا عابرا للعصور والأزمان لأشلاء عروبتنا.
لا انوي تطبيق معايير النقد الصوري وأساليب سقراط في استدراج الآخر حتى يعترف بخطأ أقواله، لأن هذا يعني إنني انوي ان استدرجنا جميعا نحن الأعاريب الرعابيب لنقد معظم بنياننا اللغوي الذي نتكيء عليه جدارا أخيرا لتبرير أخطائنا وخطايانا، بدلا من الاعتراف بها ومحاولة إصلاحها لبناء علاقة إنسانية جديدة مع العالم، ومع انفسنا .ا
من كتابي(مؤخرة ابن خلدون)الصادر عام2006

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى