نص ليرة.. / محمد العيسى

نص ليرة..

أكره أنصاف الأمور ولا أعني أوسطها فهناك فرق لغوي ما بين النصف والوسط من حيث التوظيف ، ببساطة لا أحب أن أبدأ بشيء دون أن أنهيه ، ولكن هنا سأتوقف عن الحديث عن منتصف الأمور في منتصف الحديث كي أخوض في حديث غيره بعيدا كل البعد عن المعنى قريب كل القرب من الاسم ، لكل منا ذاكرة قريبة وأخرى بعيدة وأعتقد بأنك تتفق معي بأن الذاكرة كلما ابتعدت كلما كانت أكثر بساطة وعفوية بكل محتوياتها سواء كانت ظروف أو أشخاص أو حتى بلدان.
هناك في ذاكرتي البعيدة أذكر آواخر التسعينات حيث بلغ العقل مرتبة التواصل مع الآخرين والتعلق بهم أو بما يحيط بهم ، أذكر هذا الوقت (السادسة والنصف صباحا) وقبل التوجه الى المدرسة حيث كان الجميع يستيقظ من نومه هذا الى مدرسته وهذا الى عمله وهذا الى جامعته او كليته ، كان هذا الوقت بالتحديد هو بداية كل شيء صوت الجيران يلامس بابنا ، زوامير الباصات للطلاب بائع الكاز بجرسه الهرم وبقالة “الشيخ” ذلك الرجل الذي يقف على عكازتيه في كل صباح يفتح ” دكانته” بعد الشروق وحتى العاشرة ليلا حيث كان يبيعنا بساطة وابتسامه قبل ” البسكوت والشيبس”.
“امي بتحكيلكم صحة وهنا” هذه الجملة ببساطة كلماتها إلا أننا كثيرا ما تناقلناها حينما كنا نحمل “صحن الطبيخ ” أو حتى الحلويات التي تعملها الأم ومن ثم تضع “صحن للجيران” دون أن يطالبها أحد بذلك فمن طالبها بذلك هو فقط طيبتها وحبها للآخرين الذين بدورهم يقومون بكل بساطة بخدمة إعادة التعبئة بطعم آخر ومذاق آخر حتى أننا وكأطفال كنا ننتظر هذا “الصحن” الذي أصبح يمتلك الحرية المطلقة في دخول بيوت “الحارة” وأن يتعرف على بصمات الجميع.
” هاظ الشلن الك ولأخوك”!! نعم ، كان للمذكور قيمة شرائية حيث كان ” الشلن” وسيلة للوصول إلى “بكيت شيبس فطوطة ” و “عصير زاكي المثلث” وأعتقد بأن من عاش هذه الفترة يتفق معي بأن ما تم ذكرهم كانوا “زاكيات” ، كان لكل قرش قيمة توازيه خاصة في ميزان الأطفال ومعاييرهم التي كانت ترى “علكة شعراوي تسلاي”.
“يما خوالي إجو وكمان عمامي” هذا الاستقبال الحافل الذي كان في أول يوم للعيد حيث تتغير المعايير النقدية لدينا فلا للقرش قيمة ولا حتى “للشلن” فكنا ننظر الى ” الليرة” وكانت أقل المستويات هي “النص ليرة” هذه الفئات التي تتيح لنا شراء “فرد طلق” “فتيش” سيارة شرطة أو حتى “ساندويش شاورما” صغير طبعا ، ولا زلت أذكر بأن “النص ليرة” كانت مفضلة لدي أكثر من الدينار نفسه حيث أن الورقتين في اليد أفضل من ورقة واحدة من ناحية نفسية طفولية.

كبرنا وكبر كل شيء معنا إلا تلك الذاكرة فكلما نكبر كلما صغرت وابتعدت حتى تصبح واقعا لنا وخيالا للأجيال القادمة وهذا ما يحصل معنا عندما نستمع لأبائنا وأجدادنا وهم يتحدثون عن أيامهم ومعيشتهم ، كبرنا ولم نعي بأن زمن “النص ليرة” قد ولى وولت معه تلك اليقظة الصباحية وتلك الأصوات العفوية كبرنا ولكن صلاحية ذلك “الصحن” أصبحت منتهية .
هل زمن البساطة إنتهى ؟ هل زمن العفوية ولى ؟ هل حب الجار للجار بات وهما ؟ كلها اسئلة تحتمل الكثير من الإجابات ، ربما أكون خائفا حين أتسائل عن هذه الذاكرة لذا أحاول ان لا أجيب ، ولكن مهما تهربت من هذه الذاكرة لا يزال هناك صوت بعيد يهمس في أذني ويقول : “من يوم ما لغو النص ليرة الوضع تغير”..

مقالات ذات صلة
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى