نسائم الصيف، وفوضى الذكريات ! / ماجدة بني هاني

نسائم الصيف، وفوضى الذكريات !
هذه الليلة تجتاحني نسائم آخر الصيف، باردة لذيذة ،لكنها موجعة…..
أكثر ما يوجع فيها ،أن تخرج من حصاد الصيف صفر اليدين ،تدور حولك عجلة الحياة ، وأنت تقف مكانك ، مسجوناً في ذاتك ، فلا أفق المستقبل يغريك ، ولا دروس الماضي تنفعك ،ولا ألق الحاضر يعنيك ، فسجنك أكبر من كل تلك المساحات ،وأشد إيلاماً !!!
وحدها الطفولة تسيطر على الموقف،وتشدني للأمس “بكلاليب “مضنية……
أصاب بالذهول! وأسأل نفسي : لماذا يأبى الطفل العنيد الذي في داخلنا أن يكبر ؟
نكبر نحن وتشيب الذوائب منا ،وتنحني الظهور ،ونترنح نحن تحت قسوة الظروف،وضنك الحياة ، وتبقى طفلة ٌ في داخلي حائرةً ،فوضويةً ، تلح علي وتتجاذبني للظهور !!
كم هي لحوح مراحل العمر ! وكم هي منطقية لا تقبل المهادنة.!!
فكل مرحلة يجب أن تعاش في وقتها ،وتأخذ حقها بالكامل ،فإذا أجهضت ،أو تعرضت للسوء ،خرجت غير مكتملة النمو ، للأسف،تموت المراحل كالأجنة الناقصة ،وربما تتعرض للإعاقة فتبقى في النفس أثلامأً وجروحاً غائرة.. يظل يطفو على السطح بعض من دمها،والتهاباتها بين الفينة والأخرى….
من يصدق أن امرأة أربعينية ،خصبة وكاملة الأنوثة ،تتفلت من حناياها طفلة ،تثير الشغب،تعبث وتشاكس وتمارس براءتها المفرطة…
من يمكنه رؤية الطفلة بمرآة ذات المرأة ،لا بنظرة الرجال إلى النساء!!
بالمناسبة ، يقولون أن المرأة تأخذ دروس الحب الأولى من والدها،في العشر سنين الأوائل من عمرها ،ترسم تفاصيل حبيبها وتحفرها في خلايا الدماغ ،حتى إذا أتعبتها التفاصيل القاسية ،انتقلت تكمل الصورة من الرجل الثاني ، الأخ الأكبر…ترسم الصورة بحبر الاهتمام وتلونها بماء الحنان ، فكم هي طعنة نجلاء أن تحرم الطفلة من والدها ،وكم من الظلم من يحاول حرمانها منهما ،ولو بعد حين وتحت أي ظرف من الظروف!!

أحاول الهروب من طفلة في داخلي ،إلا أنها تشدني بقوة صورتها ،وكأني أراها قبل عقود مضت ،في السبعينات.
وهي ذات ست سنين ،نحيلة ،بجديلتين كستنائيتين وعينين لامعتين خضراوين ،تقف في باحة الروضة للمرة الأولى في بداية العام….
كانت غريبة بين الأقران ،غريبة في شكلها ، ولباسها ،مدنية في طرازها ،بمريلة قصيرة وجوارب ،وحقيبة أنيقة…
كل شئ يبدو عادياً إلا تلك الطفلة ،فهي للتو قادمة من وسط المدينة مازالت طازجة ،الصدفة فقط وظروف عمل الوالد أجبرته للتنقل في المدن الأردنية ثم أخيراً قرر أن يضع عصا الترحال ويستقر بين ألأهل والعشيرة.
كيف يمكن للأقران خاصة الذكور أن يفهموا هذه الحقيقة ويدركوا ان هذه العصفورة التى تبدو غريبة هي ابنة العمومة،ومن عظام الرقبة ،فيكفوا عن إيذاء الطفلة بالضرب واللفظ والقرص الخفي أحيانا في حضرة الأستاذ عواد.
ما أصعب أن توضع طفلة حالمة فجأة على محك الاغتراب والتطبيع واستجداء القبول من الآخرين!
أذكر أنها كانت في تلك الحالات تغرق في حالة من الصمت ،تتمترس بشئ من الدهشة والاستغراق ،ويعتريها الاستسلام ،تصمت طويلاً لكن تلتهم من المشاهد والمواقف ما شاء لها حتى الثمالة ، تنقل كل ما حولها من تفاصيل دقيقة وعميقة ،يظن من حولها أنها تعاني،سباتاً عميقأ أو أن عصابة من الجان اختطفتها ، أو أن غزلانا في فلاة تطارحها اللعب ، وتبادلها الضحك ، حتى تأتي اللحظة الحاسمة ، وتتفجر الكلمات كالينبوع ،وتبدأ الثرثرة بلا توقف ، هذة الطفلة هي الآن من تكتب بين يديكم….. فتختشي وتتوجس ،فلربما يتذمر السادة في سواليف ، ويضيق العمود المخصص للبوح فلا يتسع لزخم الكلمات….. تهرب الطفلة ، وترعوي وتقرر أن تكتب ذكرياتها في حلقات……..

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى