نجمات مصريات عُرفن كأمهات على الشاشة

سواليف

لم يسمعن حروفها الساحرة التي ننطقها تلعثماً وتردداً في أولى تدريبات الإنسانية المبكرة على الاستقلال، بعد الانفصال الكبير بين قلبين تبادلا الدقات والمشاعر وحديث الصمت لشهور طويلة، قبل الانطلاق من رحم آمن إلى فضاء كبير.

“ماما”.. لم يشهدن ترديدها على شفاه تلقيها رحمةً ونعمةً ومكافأةً لجهد خارق.

عرفت الشاشة العربية الكثير من هؤلاء اللاتي لم يعشن تجربة الأمومة الواقعية، لكنهن أدين أمام الكاميرات نماذج متعددة من الأمهات في إبداعٍ وصدق.

أمهات السينما في مصر كثيرات؛ بعضهن قدمن ما عرفنه من أمومة الواقع التي لا تقل عظمةً وإخلاصاً، لكن هؤلاء اللاتي حُرِمن – وأحياناً اخترن -، ربما كنّ نماذج تستحق التأمل، خاصة في زمن الأبيض والأسود.

فلماذا نجحت أمهات “الأبيض والأسود” في رسم ملامح حميمة للأم المصرية، بينما لم تلق “أمهات الألوان” ذات النجاح؟

ولماذا يتذكر المصريون أمينة رزق وهي تربت على ابنة مريضة، أو فردوس محمد وهي تلهج بالدعاء لابن مسافر كلما جاءت ذكرى يوم الأم؟

هل هو الحنين الذي يجعلهم يعودون بالزمن لأفلام “الزمن الجميل”، أم أن النماذج التي قدمتها نجمات السينما قديماً لا تزال صالحة لإثارة الدهشة والإعجاب؟

هذه قراءة سريعة في ذكريات السينما في “يوم الأم”، وبحث عن أشهر من قمن بهذا الدور دون أن يمنحهن القدر ممارسة الدور في الحياة:

أم السينما المصرية


يمكن قراءة أدوار أمهات الشاشة بأكثر من طريقة، حيث يمكن النظر إلى الدور وصاحبته بمنطق الـ “ستريوتايب” أو القالب الذي حبست فيه الفنانة بدورٍ وحيد، مثلما حدث مع الفنانة فردوس محمد، التي لعبت دور أم عمياء لعبد الحليم حافظ في فيلم “حكاية حب” وكان أداؤها في هذا الفيلم تتويجاً لرحلة فنية طويلة بدأت مع فيلم “دموع الحب” في العام 1935.

فردوس محمد التي ولدت في العام 1906 يتيمة الأبوين وتولت تربيتها أسرة تربطها علاقة قرابة بوالدتها، والتحقت بمدرسة إنكليزية بحي الحلمية، فتعلمت القراءة والكتابة والتدبير المنزلي، لكنها لم تكمل مشوار الدراسة، وتزوجت صغيرة السن ثم طلقت أيضاً وهي صغيرة السن، ولم تنجب أبناء حتى بعد زواجها الثاني.

ولعبت دور “الأم” لكبار الفنانين ومنهم أم كلثوم، ويوسف وهبي، ومحمد عبد الوهاب، وعبد الحليم حافظ وفاتن حمامة، ولبنى عبد العزيز، كما أيضاً قدمت دور “المربية” لفنانين آخرين منهم ليلى مراد وماجدة.

واستمر مشوار الإبداع والأمومة حتى رحيلها في أواخر الخمسينيات عن عمر يقارب 55 عاماً، بعد مشوار فني لافت حبسها المخرجون خلاله في هذا الدور لأكثر من سبب.

أولاً؛ السبب الفني، حيث مثلت دور الأم ببراعة وبساطة في آن ربما بسبب يتمها، وافتقادها لدور الأم وهي طفلة صغيرة. ثم هناك السبب الاجتماعي؛ حيث تفاعل الجمهور مع أدائها بحيث صار يصنفها أماً، ما أغرى المخرجين بإسناد دور الأم إليها.

كانت فردوس محمد تمثل نموذج الأم الشعبية أو الأم الريفية المحافظة الطيبة التي يمكن أن يجدها المشاهد إلى جواره في البيت، أو الشارع، سواءاً في الأحياء الشعبية أو القرى، ومن هنا يمكننا أن نسمي أمومتها بـ “أمومة الترسو” أو الدرجة الثالثة، وهي بطولة بحد ذاتها أن يصدق الجمهور العربي كله أداءها في أفلام مثل “شباب امرأة” و”إحنا التلامذة” و”حكاية حب” و”عنترة بن شداد” و”صراع فى المينا” و”رد قلبي” و”سيدة القصر” وغيرها.

ولعبت أمومتها على الشاشة دوراً في ترسيخ مفاهيم وقيم الأمومة في المجتمع المصري والعربي بأدوار باقية في الأذهان.

يشار إلى أن فردوس محمد لعبت دور الأم لسيدة الشاشة العربية فاتن حمامة منذ كانت فاتن طفلة في أول أفلامها “يوم سعيد”، وتعددت الأدوار حتى فيلم “أرض الأحلام”.

وبسبب تلك الرحلة الطويلة مع سيدة الشاشة، كتبت فاتن حمامة على قبر فردوس محمد هذه العبارة: “يا أمي يا فردوس، لقد كنتِ لنا جميعاً أماً و فردوساً، وسيجزيك الله بما لك من مآثر جنة الفردوس”.

الأم الحزينة


ربما بسبب إتقانها لأدوارها على المسرح، وتعدد الشخصيات التي لعبتها، جاءت أمينة رزق الملقبة بـ “عذراء السينما المصرية”، بخلفية ثقافية عريضة لكنها بحسب موهبتها وخبراتها المسرحية التي تفاعلت معها الجماهير مباشرةً في حفلات المسرح، فتعلمت أن الجمهور المصري يميل إلى التراجيديا والميلودراما، فصارت “دمعة أم” على الشاشة إن صح التعبير فنياً وإنسانياً.

ولعبت بفطرية ممزوجة بعبق الخبرة على المخزون النفسي للحزن لدى المصريين، فقدمت نماذج الأم المظلومة – ربما كنوع من الاحتجاج الصامت على واقع المرأة في مصر، وواقع الأمومة التي تعاني من كل المشكلات اجتماعية ونفسية وجسدية -، فصارت دموع أمينة رزق جواز سفرها إلى قلوب المصريين، أصحاب الدمع السريع من القلب والعين، وصار وجعها نموذجاً للحزن النبيل والأمومة الطيبة ذات الشجن والهموم.

ساعدها على ذلك ملامح تجمع بين الرقة والشجن والجمال لتقدم نماذج متعددة من أدوار الأم، وإن كانت قد مثلت غالباً أمومة الطبقة الوسطى التي توسعت اجتماعياً في مصر بعد ثورة 1919 ثم ثورة 1952.

ونجحت رزق في غزل أدوارها بحزن شفاف، منحها التفرد في دور الأم الحزينة عن جدارة في أعمال مثل

فيلم “دعاء الكروان” الذي لعبت فيه دوراً صعباً بكثير من الصمت والتعبير بالوجه عن مشاعر أم تفقد ابنتها بسبب الحب، وهو التعبير الصعب عن مواجهة تغير الزمن ومعرفة البنت البدوية لمشاعر الحب التي قتلت ابنتها هنادي، وتعرض ابنتها الثانية للخطر.

وكانت تعبيرات وجه أمينة رزق في هذا الدور من علامات الأداء السينمائي، كما لعبت أدوار الأم في “كلهم أولادي” و”التلميذة” وفي رائعة نجيب محفوظ “بداية ونهاية” و”عودي يا أمي” و”المجرم” و”بائعة الخبز”.

أمينة رزق التي ظهرت لأول مرة على الشاشة في فيلم أولاد الذوات (1933)، بلغ رصيدها الفني 150 فيلماً لعبت فيها دور الأم منذ كانت في الـ 35 من عمرها وهي سن مبكرة لأداء دور الأمومة، لكن ملامحها التي تجمع البساطة والشجن أغرت المخرجين باختيارها لهذا الدور دائماً.

وبعيداً عن الشاشة وقريباً منها، صارت أمينة رزق في آخر أيامها أماً للفنانين كما كان يلقبها الكثيرون منهم. بسبب رعايتها لهم أثناء التصوير وكأن القدر الذي حرمها من الأمومة الطبيعية منحها أمومة واسعة الانتشار على الشاشة، وجعل دمعتها القريبة جسراً قوياً بينها وبين المصريين وربما العرب جميعاً، ثم منحها أمومة الوسط الفني كله بصورة لم تحظ بها فنانة قبلها ولا بعدها.

شادية “غنوة” الأمومة


رغم أن المطربة الكبيرة شادية التي نالت شهرتها بالأساس بالغناء الخفيف، وصورة المرأة الحديثة التي تعبر عن بنات الطبقة الوسطى، خاصة بعد ثورة يوليو/تموز 1952، ولم تختبر أمومة الواقع، فإنها نجحت بشكل لافت في تقديم دور الأم في أفلام قليلة جداً في فيلم يعد من علامات السينما المصرية هو فيلم “لا تسألني من أنا”.

كما أن الدور نفسه رغم ميلودراميته البالغة، صار علامة على مشاعر الأمومة لدى المصريات، حيث لعبت شادية دوراً مركباً لأم رضيت أن تعمل خادمة لابنتها، التي تنازلت عنها لسيدة ثرية لا تنجب، لتتمكن من الإنفاق على باقي أولادها، ونجحت بشكل لافت في تقديم الدور الذي لا يزال يحظى بمشاهدة عالية كلما أذاعته القنوات الفضائية.

ورغم أنها لم تنجب، فإن شادية – التي اعتزلت الفن والمجتمع منذ سنوات طويلة -، قدمت أدوار الأمومة باقتدار يعبر عن مقدرتها العالية كممثلة، ومقدرتها الإنسانية في تلخيص المشاعر الدقيقة كأم لها من خبرات الأمومة الكثير.

كما قدمت دور الأم وهي بعد في سنوات الشباب الأولى في فيلم “المرأة المجهولة” الذي غنت فيه أغنية شجية لا تنسى “سيد الحبايب يا ضنايا إنت”.

ربما يقول النقاد إن التقمص هو دور الممثل وصميم عمله، لكن تقمص ممثل لأي دور ينعكس نفسياً عليه، ما قد يعرضه لأزمات الأمر الذي يجعل من قبول ممثلة لدور الأم وهي في الحقيقة لم تمارس هذا الدور في الواقع محفوفاً بالمخاطر النفسية أو قد تسقط في المبالغة لتعويض نقص خبرتها الشخصية.

لكن شادية وقفت على الخيط الرفيع بين الاثنين؛ الفني والإنساني، فلم تبتعد عن شخصية الأم عندما قدمتها على الشاشة.

اللافت أن شادية بطبيعتها الفنية ربما كانت أقرب إلى أدوار أمهات الطبقة المرفهة – فهي مطربة أغنية الجملة البسيطة -، لكنها في أدوار الأم قدمت الشخصية المركبة العميقة فخالفت نفسها مرتين.

وللسينما أمهات كثر


منهن علوية جميل التي تزوجت محمود المليجي وتخصصت في دور الأم القاسية والشريرة أحياناً، وكانت من نماذج أمهات الشاشة فقط، فلم تنجب لكنها لم تجذب الجمهور كما فعلت زميلاتها من أمثال أمينة رزق وفردوس محمد، ربما بسبب تقديمها لدور الأم القاسية وهي الصورة التي لا يحبها المصريون في الأم النجمة.

كذلك تخصصت الفنانة زينب صدقي في أدوار الأم الأرستقراطية، فكانت بعيدة عن الغالبية لعظمى من جمهور الشاشة، ولهذا ربما ابتعدت قليلاً عن الذاكرة.

أما سناء جميل، التي اختارت العمل في الفن رغم قطيعة أهلها في الصعيد الذين كانوا يرون في الفن “عاراً” على فتاة من أسرة محافظة، فقد اختارت الفن بديلاً عن الأمومة، رغم براعتها في تقديم هذا الدور على الشاشة.

وربما يكفي دورها في آخر أفلامها “أضحك الصورة تطلع حلوة” في العام 1998 حينما قدمت دور الأم للراحل أحمد زكي ودور الجدة لمنى زكي، لتبقى أماً في ذاكرة جمهور السينما المصرية.

أمهات بالألوان.. غير الطبيعية


من دون قصد ربما نجحت أمهات الأبيض والأسود في تقديم نموذج الأم دون أن يعشن تجربة الأمومة في الواقع، ربما لأن السينما كانت أقرب في ذلك الزمن للدور الاجتماعي وتمارسه بمنطق التربية، ولعل المشاهد يلاحظ في هذه الأفلام أحياناً بدايتها بآيات قرآنية أو ختامها بمواعظ واضحة، ما يمكن معه اعتبار أفلام سينما الأبيض والأسود سينما النموذج الذي تلعب فيه الشخصية دوراً محورياً.

ربما لأن المجتمع لم يكن عرف الطبقة بمعناها الاجتماعي، وربما لأن المجتمع، منذ ثورة 1919 وحتى الستينيات كان يعيش دور البطولة الفردية على المسرح السياسي، مع بروز شخصيات مثل سعد زغلول وهدى شعراوي وجمال عبد الناصر. وكانت الحركة الاجتماعية أو الفنية تنسب إلى شخص، فهناك مسرح يوسف وهبي أو مسرح الريحاني وغيرهم.

ومع ثورة يوليو/تموز حدث تحول تدريجي، وبدأت تظهر النماذج الاجتماعية كالمرأة العاملة والأم العصرية التي لا تتنكر لأمومتها ولكن صار لديها أدوار أخرى لا تقل أهمية. فتحولت بطولة الأمهات إلى الدرجة الثانية، باستثناءات، لأن الزمن بعد يوليو/تموز كان أقرب إلى ملامسة الحداثة.

وبعد الانفتاح في السبعينيات، تطورت شخصيات النماذج الاجتماعية، وصار دور الأم أكثر هامشية أو أقل عمقاً، لأن من لعبته لم تقدمه كنموذج للأمومة بقدر ما كانت تلعب دوراً آخر مثل يسرا في مسلسل “حياة الجوهري”، الذي قدمت فيه نموذج للمرأة المقاومة الموظفة التي تحارب الفساد وفي الوقت نفسه تقوم بدور الأم، ومثلما فعلت ليلى علوي في فيلم “بحب السيما”، الذي قدمت فيه دوراً مركباً لناظرة وامرأة مسيحية تعشق الفن وهي أيضاً أم وزوجة.

لكن دور الأم هنا كان هامشياً، كما أن ليلى علوي ويسرا وغيرهما من نجمات السينما في الثمانينيات والتسعينيات كن يخشين الانخراط في دور الأم خشية أن يحبسن فيه في زمن لم تعد فيه للأمومة البطولة المطلقة في واقع المجتمع.

نجمة واحدة من زمن السينما الملونة الجديدة نجحت في أداء دور الأم الذي لم تعشه في الواقع، هي النجمة فردوس عبد الحميد التي يرى بعض النقاد فيها “أمينة رزق الجديدة” بملامحها الأقرب إلى الحزن. وقد لعبت دور الأم ببراعة في فيلم “الطوق والإسورة” حيث لعبت دور أم النجمة شريهان في الفيلم الذي أخرجه خيري بشارة عن قصة ليحيى الطاهر عبد الله، ويروي مأساة التقاليد والخرافة وسطوتهما على أبناء الصعيد، كما يروي آثار غربة الرجال على المجتمع الصعيدي.

وربما لأن الفيلم حالة سينمائية خاصة لم يلتفت الكثيرون لأداء الأم بمفردها بعيداً عن نسيج القصة المركبة والفيلم الجماعي. لكن الكثيرين يذكرون نجاح فردوس مجدداً في دور الأم في مسلسل “ليالي الحلمية” الذي كتبه الراحل أسامه أنور عكاشة وقدم فيه تحولات الزمن المصري في السنوات المهمة من ثورة يوليو/تموز حتى زمن الانفتاح ونجحت فردوس في دور أنيسة الأم الحازمة الحنون في آن بشكل يذكر المشاهد بأداء أستاذتها في هذا المجال أمينة رزق.

السندريلا حالة خاصة

تعمدت النجمة سعاد حسني الابتعاد عن دور الأم في زمن نجوميتها في سينما الأبيض والأسود، كما اعترفت.

وأرجعت السبب إلى أن والدتها تخلت عنها وهي صغيرة بناءً على اتفاق مع والدها عند انفصالهما.

ونتيجةً لذلك، شعرت بالخوف من ألا تكون هي نفسها أماً جيدة، فاختارت أن تُحرم من الدور في الواقع، وتجنبته إلا نادراً على الشاشة، فلا يذكر لها الجمهور سوى دورها في فيلم “الراعي والنساء” كأم تختبر مشاعر الحب مع ابنتها في نفس اللحظة والظروف، في زمن الألوان.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى