من وجع الذاكرة 3 / أبو ورد

من وجع الذاكرة 3
طالت الإقامة في “عباس العقاد” , انتهت صباحات الملاكمة , وغدت قفازات “جهاد” ومصاريع “ابن حميدان” مجرد حروف خرساء . أضحت صولات الأستاذ نايف , و”شبرية” معلم الرياضيات , وصرامة “عكاوي” , وغراميات “قدورة” صورا باهتة تنسرب من فناء المدرسة الخلفي ثم تنبعث خيوطا لازوردية تتعالى في فضاءات بعيدة تحمل عطر الماضي , وأنفاس الأجيال بحثا عن مستقبل رسمته يد القدر , وكتبته على صفحات الجباه ,وما كان أحد يدري , أو يتنبأ …… يمضي الجميع مدفوعا إلى محطة النهاية أو البداية .

في مدرسة “عبد المنعم رياض” عالم جديد , أول ملامح الرجولة , كنا للتو قد خرجنا من حرب أهلية , وللحروب نتائج وخرائط تحدد المرحلة وما بعدها . كان الجميع مذهولا , ومصدوما , وصامتا , فقد تم اكتشاف مساحات جديدة من القسوة والعبث . الطلبة من بيئات مختلفة , الملامح متعددة , والصفوف مكتظة . أولى بدايات المدينة , حيث الوعي الذاتي أساس القبول , وحيث الفردانية سبيل الرقي . عمان تتغير , تبدل ثوبها … تولد من جديد … وللعشاق مصارعهم .

لم تكن مشاعر العنف قد هدأت , ولا دورة التحدي ونبرته قد بردت . يدخل معلم العربي , أنيق الملبس , دقيق الملمح , ناعم الصوت . يقف أمام السبورة , وينده : فريد . فجأة تبدأ معركة شرسة بين الاثنين , “ينتصر” فريد وقد تمزقت ياقة المعلم , وكادت ربطة عنقه تودي به , لم يحرك أيا منا ساكنا . الجميع مأخوذ بالمشهد . غاب فريد , انقطعت صلته بالمدرسة … فريد غدا أمريكيا من أصول شرق أوسطية !!!

أثرت الحادثة في مشاعر الطفل ومهدت في روحه سبلا جديدة لم تكن سالكة أو مطروقة , رافقته بقية حياته , وجعلت منه صانع لوحات , وذواق غابات … تروقني أشجار الصنوبر , تأسرني وحشة الغابات , وغموضها . ذات مساء ذهبت للبقالة المجاورة , كانت البائعة امرأة يافعة , اعتدت أن ابتاع منها , فاتنة الصورة , مثيرة القد , تلفها غيمة من أنوثة متوقدة , ورذاذ من حياء لئيم ! في الممر الضيق كان اللقاء , بحركة عفوية لامست يداي صدرا نديا دافئا , محملا بأثقال طرية , سرعان ما أرتد ككرة حائط , أو كحق عسل ارتطم بعطش صحراوي ثم انفجر مرة واحدة , معلنا التوبة عن كل بخل وشح . عدت إلى البيت ثملا , أسكرني الشهد , وأعادني إلي الأثم . وضعت رأسي على الوسادة , واستحضرت المشهد وغرقت فيه , حفظت كل التفاصيل , وأضفت من خيالي ما يملأ الشقوق والفراغات . بعض الدروس نحفظها غيبا , سهلة عذبة , لا تحتاج إلى معلم ماهر أو تفصيل طويل .

مقالات ذات صلة

لم تكن الرحلة اليومية الدراسية سهلة , مع بواكير الشمس أشق دروبي بين بيوت أنيقة , حدائقها غناء , وضبت بطريقة بسيطة . يتعربش الياسمين بواباتها , وتضفي بتلاته الصفراء والبيضاء بكارة وحشية , وعذراوية عمانية , ونشوة لا تلبث أن تنتهي حتى تبدأ . نسمات الصباح تداعب الورد , وتحتشد طيوف من روائح عابقة , تفتح ذراعيها للغادين والرائحين , وقلبها للبدوي العابر . ذات صباحية رأيتها , بدوية الملامح , شعرها أسود فاحم , وقد توشحت ببنطال اخضر زيتي . فتك بي المنظر , ألهب خيالي , وملك علي ما تبقى من فسحة للاختيار . ثارت لواعج جنوني , ظللت أبحث عنها أسبوعا كاملا إلى أن وجدتها . ذات الياسمين , ذات البتلات , وذات الفوح العابق , ولكن… بعكازين دائمين , خاب رجائي , ابتلعت أول هزائمي , وغادرت الشارع إلى الأبد .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى