من وجع الذاكرة 2 / أبو ورد

من وجع الذاكرة 2
الإهداء : لمن غيبتهم شواطئ بيروت , الحاضرون دوما .

الذاكرة لعنة السنين , القنبلة الموقوتة التي نتعايش معها , الأحبة الماضين وهم يذكروننا بالوجع الخفي الدائم … من نريد قتلهم ولكننا نشعر بالعجز والخوف في اللحظة المواتية , المجهول الماضي ونحن نعيد اكتشافه , ونفشل كل مرة . ثم نؤجله أملا في ذاكرة جديدة , نستحضرها ونتباهى .

ولأني لست أطمع بشيء , بأي شيء , فقط أن يقرأ الآخرون ما أكتب , وأن يتفكروا فيه , وأن يحلموا مجرد حلم بمستقبل آمن وسعيد لأبنائهم .تسألني شقيقتي : وماذا تدرس ? دين . تلطم خدها , وبنبرة المدهوش الموجوع : يا خراشي , عليه العوض , تزفر , ثم تصمت طويلا بنظرات حائرة منكوبة .

غادرت عمان في ظروف قاسية , حملت حقيبة صغيرة , لم يكن بها سوى منشفة , بعض الملابس الداخلية , وكتابا عن طوق الحمامة . لم أكن أملك سوى ما يكفي يومي , ثمن علبتي تبغ , رغيف ساندويش , وذاكرة مثقوبة , يتشرشر منها وجع على أحلام غادرت منذ زمن طويل .

في الحقيقة لم أحب هذه المهنة , كرهتها منذ اليوم الأول . قبل قرابة عقدين انعقد الحفل , زفة التعيين !! معلم جديد في وزارة تعليم . وكنت أعرف أن المناهج قاصرة , وقوانين التربية تمشية حال , ومن يصعد للجامعات هم الأغنياء . وتمر الأيام …
إلى مدرسة الخشافية الأساسية , معلم لغة عربية . محطتي الأولى . صدمني مستوى الإدارة , ووضع المعلمين . من لا واسطة له أتى هنا . وأستذكر ” مسكين أنت يا بني , لو كان لك قريب مهم لما عينت معلما في قرية بعيدة ” . تكيفت مشاعرهم مع ندوب الحسرة , وشبق الألم . يقولون : الألم النفسي يثير شبقا غريبا . لم تنتهكني رحلة الشتاء والصيف , ولم تغدر بي طول المسافات , ولكن وهم الزفة , وتوسل نظرات الاب , ولهفة الشقيقات , والحاجة . الجامعة الأردنية تحتاج رسوما , المساقات تتطلب دفاتر وكتب , والمعدة الفارغة لن يسكت عويلها شعر المتنبي . أحتاج كل دينار لإكمال الماستر . وكل مساء نلتقي بالأردنية , من يملك ومن لا يملك , العبيد والأحرار , فلا بد للمشهد أن يكتمل , ولغريزة البقاء من لحم آدمي طازج . ولاكتمال المشهد عبقرية الإنجاز .

معلم تربية إسلامية , يفتح الطلبة كتبهم الجديدة على الآيات الأولى , يتبادر إلى ذهني سؤال سريع : أين تقع مكة ? من مؤخرة الصف تأتي الإجابة هائلة : دمشق . يعم صمت مفضوح . الجميع بحيرة , فعلا أين تقع مكة .

أغادر إلى آرنست فيشر , جورج لوكاتش. … يوم أن طلب مني الأستاذ هاشم ياغي أن تكون رسالة في شعر الأصمعيات , بمنظور واقعي جديد … واقعي جديد وأضحك . أحتاجك يا دراهم . عندي رغبة عميقة بسفر بعيد , لست أريد شيئا , أي شيء . من وراء زجاج النافذة أشرع جسدي النحيل للريح , وأسافر .

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى