متلازمة الأنا السفلى / وائل مكاحلة

متلازمة الأنا السفلى
ماذا لو قُدر لفرويد أن يشهد أيامنا هذه؟!!

أبو الطب النفسي والعالم الكبير الذي تحدث – أو خُيل إليه أنه تحدث – عن كل العقد و”الكلاكيع” التي من الممكن أن تصيب الإنسان جراء معايشته للبشر ومشاكل عمله وسكنه ومحيطه، والذي شهد كثيرا من الحروب والحملات وختم حياته مع أول طلقات المدفعية النازية التي انطلقت لتدك وارسو.. لم يعش ليشهد عهد سقوط الحكام ونهاية دورة حياة الحكومات والتغييرات التي طرأت على شعوب بأسرها جراء انفلات عقد الدول، لم يعش ليرى الجيوش التي خلقت لتحمي شعوبها وهي تطحن شعوبها تحت نيران الراجمات والبراميل والهاون…!!

كثيرا ما حدثنا عن “الأنا” و”الأنا العليا”.. لكنه لم يتحدث قط عن “الأنت وليس بعدك” التي تعاملت بها الشعوب مع حكامها حتى ألَّهوها، فجعلوا منها فراعنة جددا يرتدون البزات باهظة الثمن ولا يدخنون إلا الهافانا الكوبي، لم يعرف قط معنى أ ن تتحول العقدة إلى “من أنتم؟” عند المتجبر، ولا “الآن فهمتكم” عند الرعديد الخائف، ولا كيف يا أيها الناس قد “فاتكم القطار” !!.. الحقيقة أن على فرويد – لو عاد اليوم – أن يجدد المعطيات التي وضع نظرياته على أساسها طلبا للدقة العلمية ومجاراةً للعصر…!!

المعطيات تغيرت ونستطيع أن نلاحظ هذا على المستوى الشخصي على الأقل.. كنت أشاهد فيما سبق أحد هؤلاء الكبار يقف على منصة مذهبة الحواشي ومكبرات الصوت تتزاحم للفوز بكلمة “الفوهرر” الكبير.. فيعتريني الخوف قبل أن يبدأ خطابه السامي، يتنحنح بادئا خطابه بــ “أيها الشعب العظيم” فتدب رعشة الرعب في أوصالي.. هل يعتبرنا هذا العظيم عظماء؟!.. وحين يتكلم ولا أفهم كنت أتلو الشهادتين مؤمنا على رحيلي من الدنيا التي ضاقت بأمثالي من الجهلة والمتخلفين.. لم يكن عدم فهم خطاب بلغتي الأم يشكل – بالنسبة لي – أكثر من علامة على الجهل وضيق الأفق، وحين سقطت الأقنعة أخيرا أدركت أني بخير، فقد كان هؤلاء يتفوهون بخطابات أعدت سلفا لم يفهموها “هم العليا” ذاتهم، فكيف كان على شعوب “الأنا السفلى” فهمها؟!!.. لا أدري !!

مقالات ذات صلة

كان هذا واضحا جدا من نوعية الخطابات المرتجلة التي ألقوها على مسامع شعوبهم وهم يتهاوون مع عروشهم القديمة.. لا زلتم تذكرونها، أليس كذلك؟!!

بالأمس كنت أتابع الأخبار مع أبي المتوتر دوما.. أنظر إليه كيف يتفاعل مع أخبار الأرض المحتلة وحرب الخليج ومذابح البوسنة فيصيبني بعدوى التوتر والقلق، نحن دائما قلقون ولا أنكر هذا.. لكننا على الأقل كنا نعرف العدو من الحبيب..

كان لفلسطين مقاومة.. لم تكن دورة حياة المقاومة قد مرت بالتغيرات الجديدة، فأصبح للمقاومة مقاومة تقاومها لتصنع سلاما كسلام أرستقراطيي ساكسونيا مع عبيدها، كنت أعرف هدفا للحقد المقدس، كنت أعرف لمن أدعو الله لينصره وعلى من أدعو ليقصم ظهره.. فهل تستطيع اليوم أن تحدد؟!!

في البوسنة أيضا كان هناك خير وشر.. ظالم ومظلوم.. قاتل ومقتول !!.. كنت أرفع كفاي الصغيرتان لأطلب من الله النصر لإخواننا المجاهدين، وأناجيه في الصرب: “يا رب أحصهم عددا.. واقتلهم مددا”، حتى في حرب الخليج كنت تستطيع التفرقة بين دولة مطمئنة أهلها يلتحفون الأمان، ودولة جاءت لتجعل من الأولى محافظة جديدة تضاف إلى محافظاتها الثمانية عشر.. لا أنكر أن العالم تكالب عليك بعدها، لكن لا تنكر أنت بأنك لم تكن مؤدبا مع جيرانك من البداية…!!

بالأمس كنت أدرس مناهج مفهومة تتحدث عني وعن وطني ومُثُلي العلا..
بالأمس كنت أتابع أفلام كرتون لا هدف من ورائها إلا تربية النشء وزرع القيم في النفوس..
بالأمس كان أبي يعمل حتى المساء.. فيؤمن لقمتنا ويؤمن معها ساعات نقضيها معه لنتعلم منه..
بالأمس كنت أخرج مع رفاقي لأرى الدنيا وأعود آمنا لأكتب سعادتي حروفا في دفتر مذكراتي..
بالأمس كنت أنتظر بث مسرحيات صبحي.. فأبكي من ضحك صبحي وأضحك من بكاء شعبان حسين…!!

واليوم أدرس طلاسم تكفل تحويلي إما لجاهل أو لــ”متعولم” صغير، برامج التلفاز كلها مشوهة تخدم ذات أهداف المناهج التعليمية، الأب يصل النهار بالليل لتوفير اللقمة ولا يجدها، والأم تربي وحدها لتخرج للمجتمع مسوخا لا تفقه معنى “بيت”.. توطئة لأن تفهم معنى “وطن” !!.. واليوم.. أخرج من بيتي فأكون سعيد الحظ لو عدت ولم يعترض طريقي رصاص أو مخدرات أو فكر يهدم ديني وأمتي معا…!!

واليوم.. أمسى صبحي قطبا من أقطاب السياسة و…… ومات شعبان حسين…!!

الحقيقة أنه لو قُدّر لفرويد أن يشهد أيامنا هذه؛ لحجز مكانه – بكفاءة – بين نزلاء مستشفيات الأمراض النفسية… لا أطبائها…..!!!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى