مبتدأ وخبر / د.هاشم غرايبه

مبتدأ وخبر
المبتدأ: من ذكريات الحياة الطلابية الجامعية، كان ثمة زميل لنا يسكن غرفة لوحده، كنا قليلا ما نزوره، والسبب هو كسله وقلة همته، لدرجة أنه يهمل أمور النظافة، فكانت زيارته هما ثقيلا علينا نكرهها، ونحاول أن تكون خاطفة بسبب رائحة الغرفة النتنة، اكتشفنا سبب الرائحة فقد كان يرمي جواربه المستعملة تحت سريره الى أن تتبخر رائحتها ثم يعيد استعمالها من غير غسيلها، سألته مرة: لماذا لا تغسلها؟، أجاب: لا أطيق رائحتها عند الغسيل، قلت: إذاً إرمها في الزبالة وتخلص منها، قال: ليس معي ثمن جوارب جديدة.
الخبر: كلما سمعت عن تغيير وزاري أو في الوظائف العليا من بين طاقم (السيستم) ذاته، أتذكر قصة زميلنا ذاك، فكلما أصبحت رائحة فساد أحدهم تزكم الأنوف، رُمي تحت السرير فترة قصيرة، ثم أعيد الى موقع آخر جديد، وفي ظن الدولة العميقة أن الناس نسيت الرائحة النتنة، وبات من الممكن تدويره واستعماله من جديد، لكن الناس يعلمون أن الرائحة أصلا ليست من طبيعة النسيج الذي صنعت منه الجوارب، فحتى الجديد، ستصبغه البيئة السائدة بطبيعتها، فتحوله الى مثل تلك المستعملة، وسرعان ما تصدر منه تلك الرائحة.
أيقن الناس أخيرا أنه لا فائدة ترجى من تغيير الجوارب، فاعتادوا الرائحة وأصبحت جزءا من حياتهم، لذلك وعندما يشاهد عسس الدولة العميقة تزايد من يضعون أيديهم على أنوفهم، يلجأوا الى ملهاة ليطيلوا أمد الصبر.
في أحدث فكرة مُلهية، خرج علينا بعض صيادي المواقف بقصة إصدار عفو عام، عسى أن يخفف شيئا من الإحتقان المنذر بالإنفجار، لا شك أن حدثا مثل هذا سيفرح كثيرين، لأن المستفيدين منه هم غير الملتزمين بدفع التزاماتهم المالية تجاه الدولة، المتهربين من دفع المستحقات الضريبية والرسوم ومخالفات الأبنية والسير، على أمل أن ينجحوا في الإنفلات منها فتتراكم عليهم غرامات بسبب عدم التسديد في الوقت المحدد، لكن هؤلاء (الفهلوية) لا يهتمون لذلك، اتباعا للنهج المتبع في الأردن: لاشيء لايمكن تدبيره بالواسطة والمحسوبية، وعندما يتعذر ذلك، يؤجل التنفيذ بانتظار صدور قانون عفو يلغي تلك الغرامات.
لا أظن أن هنالك دولة يعتمد سكانها على صدور عفو كالأردن، فقد صدر لحد الآن منها في الخمسين سنة التي مضت سبعة عشر مرة، وفي حالات الدول الأخرى يكون العفو مرة أو مرتين في تاريخها لأهدف سياسية تصالحية مع المعارضين، في الأردن المحكومون لأسباب سياسية مستثنون بسبب أنه لا توجد معارضة سياسية، المعتقلون عادة ينتمون الى تنظيمات جهادية تطالب بإقامة نظام إسلامي، لذلك يعتبرون إرهابيين فلا ينالهم العفو، بل يقتصر على على مرتكبي جرائم السرقة والإيذاء وعدم السداد والتهريب.
ينال هؤلاء الذين أكلوا حقوق الآخرين وأخلوا بأمن المجتمع العفو، فينشغل الناس بأمرهم ولا يفطنون الى المستفيدين الحقيقيين منه، ففي كل مرة كان هنالك مستفيدون وبمبالغ بالملايين من كبار الحيتان الذين يتهربون دائما وبحماية رسمية من الإلتزامات، ولا يطالهم القانون بل السمك الصغير فقط، الذين يضطرون للدفع لأن معاملاتهم الإدارية تتعطل إن لم يكن لديهم إبراء للذمة، والتي لا تطلب عادة من صنف (سوبر) بل تسير أمورهم بسلاسة ولا يحجز على أموالهم مثلما يتم على المواطنين من صنف (عادي).
لمن يعتقد أن هنالك تهويلا ومبالغة، أورد مثلين أعرفهما، هنالك شركة تأمين كبيرة أعلنت إفلاسها للتهرب من دفع التزامات وحقوق عليها، ورغم أن المتضررين نالوا حكما قضائيا بإلزامها بالمبالغ المطلوبة منذ سبع سنوات، إلا أن التنفيذ موقوف، مع أن لها وديعة في البنك المركزي والعمارة التي فيها مقرها موجودة، ومالكوها أحرار طلقاء،ولو كان العكس أي أن لها حقا على مواطن لبيع بيته في المزاد وحجز على أمواله ومنع من السفر.
في المقابل هنالك طبيب اختصاصي أعرفه فتح عيادة خاصة، دخله منها بالكاد يكفيه لدرجة أنه لا يستطيع أن يعين سكرتيرة، ولما نال لقب استشاري وكان ذلك في أواخر السنة فلم يبينه في كشف التقدير لضريبة الدخل، فحكم عليه بغرامة 600 دينار، ولم يعلم بذلك إلا بعد أن جاءه إشعار بالحجز على حسابه البنكي وكافة أملاكه.
رائحة الفساد باتت تزكم الأنوف، ولم يعد ينفع تغيير الجوارب.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى