ماوراء نقل السفارة الامريكية الى القدس / د.رياض ياسين

ماوراء نقل السفارة الامريكية الى القدس
د.رياض ياسين
حُمى نقل السفارة الامريكية من “تل ابيب” الى القدس يتجاوز الجغرافية والامور اللوجستية الى ابعاد ايدولوجية أصولية مرتبطة بالميثولوجية الصهيونية القائمة على خلق أمر واقع جديد يعزز التفوق الاسرائيلي والأيدولوجية الدينية. ويبدو ان أنسب توقيت لنقل السفارة وترسيخ علامة اليمين على أرض الواقع تبدو مع تنصيب”ترامب”القادم بروافع كان الكل يشكك فيها،وإن كان مشروع نقل السفارة الأمريكية الى القدس احد أهم ابرز خطابه السياسي الاستراتيجي.

تبدو أهمية مشروع نقل السفارة الامريكية الآن في عهد “ترامب” كبيرة وخطيرة، هذه الخطوة تأتي بعد أكثر من ثلاثين عاما من بداية الفكرة أي في عهد الرئيس “ريغان” الذي شهدت ولايته الرئاسية الثانية أوّل محاولةٍ عمليةٍ للحصول على قرارٍ من الكونغرس يقضي بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، حيث وافقت اللجنة الفرعية للعلاقات الخارجية في الكونغرس 1984 على مشروع قرارٍ بـ”نقل السفارة الأمريكية ومقر السفير الأمريكي من تل أبيب إلى القدس”،وتتالت المحاولات ،ففي عام 1985 أضاف مجلس الشيوخ مشروع تعديلٍ على لائحة الأمن الديبلوماسي ينصّ على أن بناء سفارةٍ جديدةٍ في “إسرائيل” يجب أن يكون في القدس فقط.
ويبدو ان مشروع نقل السفارة الى القدس قد كان مهما تأجيله عند فتح ملف التسوية والمفاوضات بين الفلسطينيين والاسرائيليين،فعندما تسلّم الرئيس “جورج بوش” الأب إدارة البلاد عام 1989؛ كان يحاول إيجاد حلٍ لقضية القدس وما تحتويه من ملفاتٍ عبر التسوية والمفاوضات بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، ما جعله يعارض بشدةٍ قرار الكونغرس سنة 1990، الذي نصّ على نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس؛ وذهب بوش إلى أبعد من ذلك، حينما قرر تجميد صرف ضمانات قروضٍ للحكومة الإسرائيلية بقيمة 400 مليون دولار، وربط صرفها بوقف الاستيطان في الأراضي الفلسطينية بما فيها القدس؛ وهكذا عُلّقت قضية نقل السفارة مرة أخرى حتى انتهاء ولاية بوش عام 1993.
وبعد إبرام اتفاقية أوسلو، صرّح رئيس حكومة الإسرائيلية آنذاك “إسحاق رابين” أن “الخلافات بشأن قضية نقل السفارة الأمريكية إلى القدس غير مهمةٍ، وعلى الجانبين السير قُدمًا”، لتعود القضية إلى الواجهة من جديد.
وفي العام 1995، صوت غالبية أعضاء الكونغرس على نقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة.
واهمية تصويت أعضاء الكونغرس هذه المرة انهم زادوا عليه في حينه اعتبار القدس دون تحديد اي شطر فيها عاصمة لدولة اسرائيل.

اهمية قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس عام 1995، انه جاء بعد التفاوض والتسوية وتأجيل ملف القدس وصعود اليمين في امريكا وسياسة القطب الواحد وانفراد الولايات المتحدة بقيادة العالم دون منازع. وظل الحال من تاحيل الى آخر حتى وصلنا الى عهد ترامب، حيث كان الخطاب الامريكي بشان القدس واضحا طيلة التسعينات ومنحازا الى حل الدولتين،وقبل ترامب عبّر اوباما عن موقف الديمقراطيين في طروحاته حول القدس، التي يراها موحدة غير مقسمة،فلم يتحدث عنها الا بوصفها مكانا “لكل ابناء ابراهيم ليختلطوا معا بسلام”،فالقدس ليست مطروحة بوصفها مقسمة كعاصمة بين دولتين كما كان الطرح زمن كلنتون في كامب ديفيد (2)عام الفين، فمكان العاصمة وفقا لكامب ديفيد في مناطق من المدينة،بحيث أن كل طرف يتخذ من القدس عاصمة له في المناطق التي يسيطر عليها ،وكل منهما يعترف بها عاصمة للطرف الاخر في منطقته،هذا الطرح غير وارد في خطاب امريكا الحالي مع اوباما ،فهو امام الايباك وقبل اعتلائه الرئاسة صدر عنه وعد بان القدس غير المقسمة سيسمح فيها بالاختلاط فقط بين المسلمين والمسيحيين واليهود،فهي وفق ذلك عاصمة اسرائيل موحدة غير مقسمة. وهذا تماما ما يراه الاسرائيليون لمستقبل عاصمة الثقافة العربية مع مسحة أكثر عنفا في خطاب نتنياهو بأن هذه المدينة أبدية للشعب اليهودي موحدة وليست قابلة للتقسيم بحال.

لقد اتضح أن موقف ” ترامب” من القضية الفلسطينية أقل وضوحًا وإن كانت هنالك دلالات تشير لكونه أكثر دعمًا لاسرائيل وأمنها ،وربما صرح أكثر من مرة ان القدس هي العاصمة الوحيدة والحقيقية لإسرائيل، ومن هنا نستنتج ان الخطاب الأمريكي مع ترامب لن يكون حاسما وجديدا، بل استنساخ لخطاب الديمقراطيين، فمن يرفض التفاوض على القدس ويصر على يهوديتها يمكن ان يكون اقرب الى فكرة “الدولة ا ليهودية” التي تعني استحالة قيام كيان فلسطيني في الارض العربية في فلسطين، ومن هنا لا يمكن الحديث عن “الدولة الفلسطينية” وأقصى ما يمكن الحديث عنه وفقا لتوجهات ترامب هو فكرة “دولة فلسطيينية” دون الخوض في اي ثوابت للخطاب العربي حول الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس.
يملك الرئيس “دونالد ترامب” بيتًا في القدس، ويبدو أن جديته في مشروع نقل السفارة حقيقي، وقد أعد العدة لذلك خاصةّ مع تعيين “ديفيد فريدمان” المحامي ومستشاره في الحملة الرئاسية، سفيرًا للولايات المتحدة لدى “إسرائيل”، وهو يهودي أمريكي داعم ومؤيد بشدة للاستيطان، وهو من المؤيدين لنقل السفارة إلى القدس.

مقالات ذات صلة

تكمن مخاطر نقل السفارة أنها تشكل انتهاكا صارخا للقانون الدولي والأعراف الدولية والدبلوماسية المرعية،وغذا نفذت الولايات املتحدة هذه الخطوة فإنها ستعلن انحيازها التام لليمين الاسرائيلي ولن تكون الوسيط النزيه، وستضرب بعرض الحاط الشرائع القانونية الدولية، وتنتهك اتفاق اوسلو نفسه فالقدس من القضايا المؤجلة للتسوية في الوضع النهائي ونقل السفارة يمثل اعترافا بانها عاصمة اسرائيل الابدية وبالتالي لن تكون موضع تفاوض مطلقا.

صحيح ان السفارة سيتم نقلها الى الشطر الغربي من القدس الذي احتلته اسرائيل عام 1948 وهو غير متنازع عليه وفقا للقانون الدولي، لكن دلالاتها السياسية والاستراتيجية خطيرة للغاية لجهة
الاعتراف بوضع القدس تحت السلطة الإسرائيلية، وهو ما يخالف قرار مجلس الأمن الأخير وقراراته السابقة، وفتوى محكمة لاهاي،كما يخالف قرار ترامب القانون الدولي رقم ٤٧٨ الصادر عام ١٩٨٠، والذي نص على أن تقوم الدول التي لديها بعثات دبلوماسية في القدس إلى سحب هذه البعثات من المدينة.
ومن المعروف أن كل القوانين والقرارات الدولية الآنف ذكرها أكدت أن الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية هي أراضٍ محتلة، وبموجب القانون الدولي لا يُسمح بنقل سيادة على إقليم محتل، وخاصة أن وجود المحتل مؤقت.وربما سيشعل نقل السفارة الصراع من جديد ويدفع المنطقة إلى حرب دينية.
.
rhyasen@hotmail.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى