لماذا يُحذّر أردوغان من “مُؤامرةٍ” زاحفةٍ إلى بلاده

لماذا يُحذّر أردوغان من “مُؤامرةٍ” زاحفةٍ إلى بلاده يَقودها “لورانس عرب” جديد؟ وهل ستَنجر تركيا إلى حربٍ في كردستان العراق تكون مَصيدةً أمريكيّةً لاستنزافها؟

عبد الباري عطوان
أدلى الرئيس رجب طيب أردوغان بالعديد من التصريحات مُنذ يوم الإثنين الماضي، موعد الاستفتاء الذي أصرّ على إجرائه السيد مسعود البارزاني، رئيس إقليم كردستان، لكن أخطرها في نظرنا اعترافه الذي وَرد في كلمةٍ أدلى بها أثناء حفلِ تخريجِ دُفعةٍ من ضُبّاط الشرطة، بأن بلاده تركيا مُستهدفة بـ”مؤامرة”، وأن الأحداث التي تَشهدها سورية والعراق والمُخطّطات التي تُنفّذ عَبرها ليست بمَعزلٍ عن تركيا.
وأضاف “الهَدف من إنشاء دولةٍ مُستقلّةٍ في كردستان العراق هو تقديم العَون لِمَن يريدون تمزيق وحدة الشعوب وإحداث صراعات لا نهاية لها في المنطقة بأسرها”.
***
تركيا في اعتقادنا هي المُستهدف الأكبر من مَشروع أحفاد لورانس العَرب الجديد، لأنها تُشكّل المُستودع الأضخم للأمّة الكرديّة أولاً، ولأنّها القوّة الإقليميّة العُظمى التي ظلّت مُتماسكةً، ولم تَصل إليها أذرع المُؤامرة الأمريكيّة التفتيتيّة التي مزّقت العراق وسورية ثانيًا، ولأنّها شقّت عصا الطّاعة مع أمريكا والغرب عُمومًا، وأسّست حِلفًا استراتيجيًّا مع الداهية بوتين ثالثًا.
الرئيس أردوغان لوّح باللّجوء إلى الخِيار العَسكري ضد إقليم كردستان، وقال بالحَرف الواحد، “يُمكن أن تَصل قوّاتنا إلى شمال العراق في ليلة ليس فيها قمر”، وأكّد أنه “في اللّحظة التي ستُغلق فيها الحدود لن يَجد الأكراد ما يأكلونه أو يَشربونه”، ولكن هُناك سُؤالين، الأول، هل يُمكن أن يُنفّذ الرئيس أردوغان تهديداته هذه؟ وهل يَسمح له العالم الغربي الذي يَقف خَلف هذه المُؤامرة بتجويع أكثر من خمسة ملايين كردي؟
نُقطة ضعف التّحالف الرباعي المُضاد للاستفتاء الكردي (العراق إيران، تركيا، سورية) هي تركيا، والرئيس رجب طيب أردوغان نفسه، لأن هذا الرجل يتمتّع بأعلى درجات “البراغماتيّة”، ويُمكن أن يتنصّل من كُل هذه التهديدات إذا ضَمِن مصالح بلاده، وأبرزها العوائد التجاريّة، والحِفاظ على الوحدة الترابيّة التركيّة، فهو يَميل دائمًا حيث تَميل رياح هذهِ المصالح، والأمثلة كثيرة لا يتّسع المجال لحَصرها.
السيد البارزاني الذي أقدم على مُقامرة الاستفتاء هذهِ يُدرك هذه ِالحقائق جيّدًا، ولهذا بادر بإعطاء حديث إلى واحدةٍ من الصّحف التركيّة المُقرّبة منه “تركيا” نَشرته اليوم، قال فيه “لا نُريد دولةً مُستقلّة تقود إلى الحرب، ونُريد حَل المشاكل بالحوار، وإن هذا الاستقلال ليس الهَدف منه تهديد الأمن القومي لتركيا، وليس من مصلحة تركيا ولا إقليم كردستان إغلاق الحدود، فالتبادل التجاري بين الجانبين وصل إلى 10 مليار دولار، وكان من المُقرّر أن يَصل إلى 16 مليار دولار بنهاية العام الحالي” إنه، السيد البارزاني، استخدم اللّغة التي يَفهمها الرئيس التركي جيّدًا.
الحُدود التركيّة مع شمال العراق لم تُغلق حتى كتابة هذه السطور، أنبوب النفط الذي يُعتبر شريان الحياة للإقليم ما زال مَفتوحًا، ويَضخ النفط بمُعدّلاته الطبيعيّة إلى ميناء جيهان، ومنه إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي الذي تستورد ثلاثة أرباعه (500 ألف برميل يوميًّا).
ما قاله السيد بن يلدريم، رئيس الوزراء التركي مُخاطبًا مُواطنيه اليوم بأن عليهم أن لا يقلقوا لأن تركيا لن تَقوم بشَن أيّ حربٍ في المنطقة، وعلى إقليم كردستان خُصوصًا، ربّما الأكثر تجسيدًا للمَوقف التركي الحقيقي في هذهِ الأزمة.
***
تركيا تَخوض جميع حُروبها في المنطقة بالإنابة، وتتجنّب بقَدر الإمكان الزّج بقوّاتها في حُروبٍ مُباشرةٍ، إلا بما نَدر، وعلى نطاقٍ ضيّق، مِثلما حَدث في شمال غرب سورية، ومدينة الباب تحديدًا، وتترك هذه المُهمّة لحُلفائها الآخرين، ولا نَستبعد أن يكون هؤلاء هم العراقيون والإيرانيون هذهِ المرّة.
الحَذر مَطلوبٌ، وتجنّب الحُروب خيارٌ حكيمٌ وآمن، إذا لم تَكن له تَبِعات أخطر على الوحدة الترابيّة لِمَن يُقدم عليه، ولكن ليس في كل مرّة تَسلم الجرّة.
الدولة، أو الدّول الكُرديّة المُستقلّة التي تتبلور تدريجيًّا، ستكون ذات حدود مفتوحة، وقابلة للتمدّد، تمامًا مثل حدود إسرائيل، الدولة الوحيدة التي تُجاهر علنًا بتأييدها وتَعمل من أجلها، وقد تكون الأراضي التركيّة هي اللّقمة الأكبر التي سيَتم ابتلاعها.
ليت الرئيس أردوغان تنبّه إلى مخاطر هذهِ المُؤامرة التي حذّر منها قبل سنوات، وتجنّب توريط بلاده والمَنطقة فيها، لأن المُؤشّرات تقول أن تركيا والعراق وإيران ربّما تكون ساحة أحدث فُصولها وامتداداتها الجديدة، فإسرائيل التي تَقف خلفها بقوّة، مِثلما وَقفت خلف تقسيم السودان، ودَعمت سد النهضة الأثيوبي لتعطيش مصر وتجويعها، لا يُمكن أن تنسى أن تركيا دولة مُسلمة، وَصلت قوّاتها إلى فيينا، ورَفض سُلطانها عبد الحميد قيام دولة لليهود في فلسطين.
اتفاقية سايكس بيكو التي جَرى توقيعها قبل مِئة عام وفتّتت الدّولة العثمانيّة، تتعرّض حاليًّا لعمليّة “تصحيح”، وبما يُؤدّي إلى تطبيق معاهدة سيفر عام 1920 التي أعطت للأكراد دولة قوميّة في الدّول الأربع، وأجهضها كمال أتاتورك، واستبدلها بمُعاهدة لوزان عام 1923 التي نَسختها استرضاءً له وتركيا “الحديثة”، بصورتها وحدودها الحاليّة، فهل يَتصدّى أردوغان لـ”المُؤامرة التصحيحيّة” الجديدة التي تَحدّث عَنها؟
نترك الإجابة للأيّام والأسابيع القليلةِ المُقبلة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى