لماذا سافر عمر؟!! / وائل أحمد مكاحلة

لماذا سافر عمر؟!!

(إبحار قصصي في قصيدة “من أنت؟” للشاعر الجميل: سلطان الركيبات)

يوقف عمر سيارته أمام تلك الحديقة الهادئة التي اعتاد زيارتها ليبتعد عن توتر العمل وأعباء الحياة، يترجل ماشيا كالمخدر إلى أول مقعد تصله قدماه، يجلس فيشعر بذلك الألم المضني الذي ينتج عن تمدد عضلاته التي وجدت أخيرا سبيلا للراحة، أوعيته تضخ الدم بعنف لتعويض النقص الذي أصاب العضلات إثر التقلص، يخرج منديلا ليمسح عرقا تفصد على جبينه سائلا نفسه عن الوقت..

في الحقيقة كانت هناك أسباب أخرى لاختيار هذه الحديقة دون غيرها.. سبب واحد يكفي كي يخرج عن مسار طريقه بين العمل والبيت ليصل إلى هذه الحديقة بالذات، هناك شعور لا يراوده إلا هنا.. ولذلك أسباب…

مقالات ذات صلة

ترجفُ أعصابي من شوقي
وحنيني بالغَ في خنقي
أتساءلُ من حولي عنَّي
أأنا حيٌ؟
أم قد مِتْ!

يمر به صبي الكشك المجاور سائلا إياه إذا كان سيشرب شيئا، يشير له صاحبنا بيده ويهمهم بكلمات يستحيل على الأذن تفنيدها، ولعجبي يسرع الغلام إلى الكشك ويعود بصحفة عليها كوب قهوة بلا سكر يتصاعد البخار منه، يأخذها هذا ويطالع وجهه فيها متأملا تفاصيل أبعد من مجرد وجه على صفحة كوب به سائل أسود، كان يستذكر فتاة ما ويكلمها كأنها أمامه.. نسيت أن أقول هنا أن هذا نشاط يقوم به كلما وجد في نفسه شوقا إلى ماض كان وما عاد هناك.. هُيّأ له أنها كانت هناك تحادثه في وله:-

أهلاً بحبيبي وبنصفي الثاني
أهلاً بالمتحكِّمِ في وجداني
يا بؤبؤَ عيني نوَّرتْ

منذُ متى أنتَ هنا
فلحضنك اشتقتُ أنا
إنَّي لستُ أُصدِّقُ أنَّكَ عُدتْ

فجأة.. سمع جلبة ما فرفع عينين دامعتين غريزيا ليرى ثلاث أطفال في عمر الورود حين تكون الورود أزرارا، كانوا يلاحقون الفراشات الملونة والقطط الصغيرة، أخذ يراقبهم بابتسامة من يعشق هذه الكائنات الصغيرة، رأى الطفلة تتجه إلى خميلة ما لتقطف زهرة، ثمة صوت أنثوي مألوف ينهرها لينقذ الزهرة في اللحظة الأخيرة.. كانت هي !!

لَمَحتها عيني عصرَ السبتْ
في المُتنزَّهِ جالسةٌ
مع وَلدينِ وبنتْ

في البادئ كذَّبتُ عيوني
لولا هيجانُ شجوني
ما صدَّقتْ

عادت به الذاكرة لسنوات خلت، يستذكر أباه وفنجان القهوة والبزة السوداء التي كان يرتديها جالسا في بيت جاره في أدب جمّ، على جبينه عرق بارد من أثر توتر خلّفه الإنتظار، ثم الزغاريد التي أطلقتها أم عروسه وأخواتها، يحضن أباها الذي أصبح عمه الآن ويقبل جبين أبيه، الكل سعيد.. تلك من اللحظات القليلة التي ستحفر في ذاكرة كل إنسان ما عاش، ينظر إلى عروسه الرقيقة.. غيداء ذات الغمازات الضحوك تتهادى حاملة صحفة عليها أكواب ملونة، الطهر في صورة إنسان.. هكذا وصفها وهو يرمق لمعة دمعة الفرح في مآقيها وكل جوارحه ترجوه عناقها حبا..

كان يعشقها بعنف.. هل تعرف شعور الغصن بزهرة؟.. شعور أم بوليدها؟.. كان يعشقها بعنف.. وكأي عاشق يتلمس طريقه إلى قلب فتاته كان يسهر الليل يكتب الشِّعر في عينيها ليسكبه في أذنيها صباحا..

كالنَّجمةِ بعدَ شحوبٍ تتلألأ
وفؤادكَ بعدَ البردِ سيدفأ
وسيقطعُ صوتُكَ حبلَ الصَّمتْ

البطالة والعوز.. والقروش التي لا تكفي ثمن السجائر.. الظروف الصعبة، العجز عن تأمين مستقبل ما، السؤال الذي يضنيه كلما زار خطيبته “هل ستطول الخطبة أكثر؟”، نظرات العتب من خطيبته لأهلها وهي تستقبله مبتسمة “من الواضح أنها تتعرض للتقريع بعد رحيله لأنها تدافع عنه”، كل هذه معطيات ستفسر لك لاحقا… لماذا سافر عمر؟..

وستركضُ نحوي من كُثرِ الشَّجنِ
مثلَ العصفورِ الهاربِ من سِجنِ
وتنادي وبأعلى صوتْ

أهلاً بحبيبي وبنصفي الثاني
أهلاً بالمتحكِّمِ في وجداني
يا بؤبؤَ عيني نوَّرتْ

دموع كثيرة ذرفها عمر في البيت.. في سيارة الأجرة.. على سلم الطائرة، كان مشهد الجميع إذ يبكون وهم يوصونه بغربته خيرا حاضرا في عقله في الغربة التي فرضت نفسها عليه لتأمين مستقبل واهٍ لا يرى ملامحه واضحة، هناك مشهد آخر لغيداء التي تنظر نحو الأفق وهو يودعها ولا تنبس إلا بنحيب خافت وقد اختفت الغمازات التي سلبته عقله يوما وحل محلها شحوب غريب.. هل تعرف شعور أنثى يفارقها حبيبها إلى حيث لا تعلم؟.. هو يتم آخر…!!

ترجفُ أعصابي من شوقي
وحنيني بالغَ في خنقي
أتساءلُ من حولي عنَّي
أأنا حيٌ؟
أم قد مِتْ!

هل حدثتكم من قبل عن الغربة؟.. لا؟.. حسنا.. هو إحساس بالتجميد !!.. كأنك دخلت إلى وحدة تجميد تعزلك عن العالم وتوقف أجهزتك الحيوية في انتظار زمن آخر قد يحتاج إليك، زمن يتوقف وأحاسيس تموت كأن ما وجدت يوما، الغربة أن تتحول أنت إلى موجات صوتية ويتحول أهلك وأحباؤك إلى ذبذبات أثيرية تنقلها الهواتف ولا تكفي لبث الحنين وشرح الدموع وإشباع الجوع إلى الكينونة، الغربة أن تدفن نفسك في الكدّ والعمل وتعاف كل مباهج الحياة التي تغريك في تلك البلاد التي تحتويك ولا تحتويها.. الصباحات كالأماسي والضحك كالنحيب والكلام كالصمت تماما، كل شئ هناك بلا بهجة ولا لمحة تدل على حياة صاحبها..

يكلمها على الهاتف..

خمسةُ أعوامٍ يا غالي
ما غبتَ ثوانٍ عن بالي
واسألْ شعري بيتاً بيتْ

فجأة تحيق بوطنه الكارثة.. هو الخريف الذي يتناقله الإعلام واصفا إياه بأنه جاء لخلاص الشعوب من طغاتها لتعيش سعيدة، غريبة هي السعادة التي تبدأ بجثثٍ وجثثٍ وجثث.. ثم مزيد من جثثٍ أخرى تنسينا الجثث الأولى، لم نسمع من قبل عن سعادة لها إرهاصات كتلك التي تطير أذرع وسيقان ورقاب الناس لتطهرهم وتنهض بأوطانهم، في النهاية لا شئ أكثر من غربان تنعق فوق الخرائب، وضوارٍ تتحسس في الظلام بحثا عن جثة تسد رمقها…!!

الإتصالات بالوطن قُطعت.. عمر يدور كالأسد الحبيس في قفص، يجر الإتصال تلو الإتصال.. أهله خطيبته.. لا جواب، يحزم أمره ثم يحزم حقائبه عائدا إلى أتون بلاده معزيا نفسه بأن تلك النار أقل وطأة من نيران أخرى استعرت في أعماقه… إنه القلق !!

وانقطعتْ أوتارُ خيالي
وتلاشتْ كبخارٍ آمالي
حينَ وَصلتْ

تمكن من إيجاد أهله في خيام النازحين بعد لأيٍ، لكن لا شئ عن غيداء ذات الغمازات الحزينة، أيام مضت وشهور غادرت أوراقها رزنامة العمر وسنون تعاقبت.. وعمر يبحث في كل مكان عن توأم روحه بلا فائدة، هناك من قال بأنهم هاجروا، ومن فجع قلبه بأنهم ماتوا جميعا في غارة من تلك التي جاءت بالسعادة لأهل البلاد.. تدور الأيام حتى يجد عمر نفسه في الحديقة أمام أنثى تصيح في طفلة لتمنعها من قطف زهرة فتية..

بلا شعور ينهض كالعنقاء من رماد الذكريات..

قمتُ وكلي يدفعُ كلي
واللهفةُ في صدري تغلي
أتخيل!!
دهشتها حينَ تراني
لبكتها أوَّلَ عشرِ ثواني
نظرتَها تحكي يا ربَّ البيتْ

يشعر بأن كل خطوة يقطعها في اتجاهها بسنة أضاعها في إثرها بحثا، يلهث كمن فاز في ماراثون أقيم على شرف تلك الغمازات التي لم تفارقها.. غيداء التي لم تفارق يوما خياله.. غيداء التي أضاع سنين العمر كي يلتقيها.. غيداء التي تنظر إليه الآن من بعيدٍ حتى خيّل إليه أنها ستهرع إلى حضنه وتقبّل عينيه التي أرهقتهما التجاعيد والدموع..

الآن يقف أمامها ودموعه تغشى صورتها في عينيه.. يتأملها في رهبةٍ صنعتها أنفاسه المبهورة..

كَبَرتْ….
لكن ما زالتْ قمرا
تتقاطرُ ضحكتها سِحْرا
فنجانُ القهوةِ هل ترضى
تغييرُ مكاني بمكانكَ
هذا الوقتْ ؟..

فتح فاه ليتكلم.. لكن العبرة كانت تنتظر الكلمات الحرّى لتخرج بمعيّتها..

قلتُ وقطرةُ دمعٍ
تتبخترُ فوقَ الخدْ
إشتقتُ إليكِ معذبتي
إشتقتُ إليكِ وعن جدْ

قالتْ وبكلِّ هدوءٍ:
عفواً.. من أنتْ ؟؟!!!

تمّت
________________________________

من أنت؟!!

لَمَحتها عيني عصرَ السبتْ
في المُتنزَّهِ جالسةٌ
مع وَلدينِ وبنتْ

في البادئ كذَّبتُ عيوني
لولا هيجانُ شجوني
ما صدَّقتْ

وأخيراً يا عمرُ أخيراً
ما ظلَّ ستعيشُ قريراً
وستنفضُ عنكَ غبارَ الكبتْ

والنُّورُ بروحِكَ يسري
والبهجةُ في وجهِكَ تجري
وتعودُ تعودُ كما كنتْ

كالنَّجمةِ بعدَ شحوبٍ تتلألأ
وفؤادكَ بعدَ البردِ سيدفأ
وسيقطعُ صوتُكَ حبلَ الصَّمتْ

كَبَرتْ….
لكن ما زالتْ قمرا
تتقاطرُ ضحكتها سِحْرا
فنجانُ القهوةِ هل ترضى
تغييرُ مكاني بمكانكَ
هذا الوقتْ

ترجفُ أعصابي من شوقي
وحنيني بالغَ في خنقي
أتساءلُ من حولي عنَّي
أأنا حيٌ؟
أم قد مِتْ!

قمتُ وكلي يدفعُ كلي
واللهفةُ في صدري تغلي
أتخيل!!
دهشتها حينَ تراني
لبكتها أوَّلَ عشرِ ثواني
نظرتَها تحكي يا ربَّ البيتْ

وستركضُ نحوي من كُثرِ الشَّجنِ
مثلَ العصفورِ الهاربِ من سِجنِ
وتنادي وبأعلى صوتْ

أهلاً بحبيبي وبنصفي الثاني
أهلاً بالمتحكِّمِ في وجداني
يا بؤبؤَ عيني نوَّرتْ

منذُ متى أنتَ هنا
فلحضنك اشتقتُ أنا
إنَّي لستُ أُصدِّقُ أنَّكَ عُدتْ

خمسةُ أعوامٍ يا غالِ
ما غبتَ ثوانٍ عن بالي
واسألْ شعري بيتاً بيتْ

وانقطعتْ أوتارُ خيالي
وتلاشتْ كبخارٍ آمالي
حينَ وَصلتْ

قلتُ وقطرةُ دمعٍ
تتبخترُ فوقَ الخدْ
اشتقتُ إليكِ معذبتي
اشتقتُ إليكِ وعن جدْ

قالتْ وبكلِّ هدوءٍ:
عفواً من أنتْ؟؟؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. ولله يا أيها القاص البهي ذا اﻷسلوب الشهي فاجئتني وابهرتني وابكيتني وابحارك في قصيدة “من أنت” زادها صدقا وعمقا وألقا وحنقا

    من أنت؟
    أنا عمر الذي سافر متغربا عن وطنه ليعيش كريما في وطنه ولكن صروف الدهر جعلتني أعود ﻷحيا غريبا وحيدا في وطني “ما أقسى شعور الغربة في وطنك وفي قلب من تحبك”

    شكرا لا تكفيك يا وائل يا حارس المقابر وسفير المشاعر

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى