لعيون المستثمرين / توجان فيصل

مؤسف حال صحافتنا، ليس فقط بدلالة ما يُمنع من النشر فيها، بل الأدهى ما يُسمح بنشره، وتحديدًا لصالح رجال المال والأعمال المختلط تعريفهم بتعريف “المسؤولين”، كون “البزنس” اختلط بمواقع الحكم حد التزاوج.

والتزاوج هنا جار ليس فقط بمعناه المجازي بل وبمعناه الحرفي. فكل مسؤول يستجد اسمه يمكن معرفة من هو عبر البحث في البزنس الذي تديره عائلته أو أنسباؤه، وكل مسؤول معروف الاسم في حقل المناصب السياسية نكتشف أنه بات له ذراع أو أذرع في استثمارات رئيسة.

وحتى المادة الدستورية التي تشترط عدم وجود مصلحة مالية لمتولي المنصب الحكومي أو التشريعي (النيابة والعينية) مع الحكومة غير أجور العقارات، معروف أن التملّص منها تاريخيًا يتم بتسجيل تلك المصالح باسم الأبناء والبنات، بمن فيهم من لا يتيح سنّهم زعم امتلاكهم لتلك الثروات، وأيضًا باسم الزوجة التي يصعب زعم أنها أصبحت حوتًا ماليًا بوفورتها “الجانبية” من “مصروف البيت”!

بل إن بعض المسؤولين، بخاصة عند توريث المناصب لذات الأبناء، لم يعودوا يأبهون بتلك المناقلة الشكلية للثروات ووسائل جنيها.. كما حصل مع وزير الإسكان والأشغال العامة الذي أحال عطاء “سكن كريم” (الخاسر وكلّف الخزينة مئات الملايين) لمنفذين منهم شركة مقاولات مسجّلة باسمه منذ أحالها له والده لدى وصوله للنيابة في انتخابات أدارتها حكومة شقيقه، أي عم الوزير، بذات الطرق التي أدى الاحتجاج عليها لحل عدة مجالس نيابية، والأهم لفقدان الثقة الشعبية بتلك المجالس.

وعودة لصحافتنا المقموعة بكلا منع النشر وفرضه عليها. وفيها نجد كاتبًا اقتصاديًا لا يكف عن اتهام الحكومات بأنها تثقل بالضرائب وبأسعارالمشتقات النفطية والطاقة، ليس عاتق الغالبية الساحقة من الشعب المفقر، بل “القطاع الخاص”، أي هؤلاء الحيتان.. ويضمّن كل مقالة له تهديدًا بأن القطاع الخاص رفع وسيرفع كلف وأسعار منتجاته وخدماته على المواطن. والرفع جار ولم يتأثر بتاتًا بالخفض الجزئي لأسعار الطاقة، ولا خفضه التهرّب الضريبي الكاسح.. ولكنه بدأت أسعار الكماليات خفضها الموسمي بمغادرة المصطافين و”المقمين” صيفا.

أما كاتبنا الذي تولّى رئاسة مجلس إدارة محطة تلفزيونية جديدة، ووعد المواطن بـ “سقف حريّة لم يعهده من قبل”، فقد وظف حادثة انهيار رافعة في مكة المكرّمة ورافعات أخرى أقل شهرة، للحديث عن رافعة تقف منذ سنوات عند برجي الدوار السادس في مشروع ضخم متعثر أسمي “بوابة عمّان”، وشكّلت مؤخرًا لجنة لدراسة مدى خطورة وجودها. وكاتبنا لا يتحدّث عن نتائج تقريراللجنة التي لا ندري من يتحمّل حتى كلفة خبرائها، بل ولا يبحث في أسباب توقف مشروع “بوابة عمّان” بل يقول صراحة “نطرح السؤال على مسؤولين، ولا تجد في العادة أجوبة واضحة، وإنما تكهّنات وتقديرات، تنتهي بالقول الأردني المأثور: “والله ما حدا عارف”. فهل هذا هو ما ستقوله لنا “محطته الموعودة” إن سألناها عن المشروع والرافعة وأمثالهما؟!

والأدهى أن كاتبنا يسلّم بقدريّة لضبابية “التكهنات” حول خلافات بين الأمانة وبين متعهّد المشروع أوقفت العمل به، ومثلها “التحليلات” بشأن الوضع المالي للشركة المنفذة، ولا يطالب حتى “بإزالة الرافعة”.. بل يطالب بإتمام المشروع فورًا دون الخوض في الحقوق المترتبة فيه لنا على متعهّدين سابقين ولاحقين تداولوا المشروع “وما حدا عارف” كيف ولماذا؟.. أي هو يُطالب بضخ أموال عامة جديدة في مشروع فاشل.

الكاتب يصل في تضخيم أثر منظر الرافعة على المستثمر المأمول، وليس خطرها على المواطن الموجود تحت رحمتها يوميًا، بقوله: “ماذا نقول لرجل أعمال عربي أو أجنبي يأتي إلينا راغبًا في استثمار أمواله؛ هذا هو مشروع “بوابة الأردن” متعثر منذ سنين؟، أي انطباع يخرج به عن بيئة الاستثمار في بلادنا؟ إذا كانت هذه حال البوابة، فكيف يكون الوضع داخل البيت؟”.

في حين أن ما يكشفه مقال كاتبنا عن داخل البيت لحينه يظهرنا كدولة تتيح القفز عن تقارير لجان سلامة عامة وعن تمحيص إفلاس أو وزعم إفلاس مستثمر أو متعهّد، وعن أية خلافات مالية له مع أية جهات أردنية دون حسمها. وإن تم قبول مقترح الكاتب بتمويل إتمام مشروع فاشل من المال العام فقط للتخلّص من منظر رافعة أو أية مكرهة أخرى تركها المستثمر أو المتعهّد قائمة.. ما يوجب القلق منه هو “بيئة الاستثمار” التي رسمها الكاتب و”نوعية” المستثمرين الذين سيأتوننا حينها!.

في زيارة لي للهند أُخذت لسوق شعبي شهير، وفيه لاحقني صبية كثر يحملون فرشاة وصندوق تلميع احذية كالذي اندثر عندنا منذ عقود، ورفضت خدماتهم، فلفت آخرهم نظري لكتلة من الأوساخ حطت على حذائي..عندها أخبرني مرافقي أن ماسحي الأحذية هم من يلقون بهذا على حذاء الزائر في الزحمة كي يضطر لتنظيفه لديهم.. حينها ألزمت الصبي ذاته بتنظيف الحذاء ولم أدفع له مليمًا واحدًا بل أنذرته بتسليمه للشرطة هو ومن معه إن اقتربوا مني ثانية.. أظن أن الصلة واضحة بين القصتين!.

عن الراية القطرية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى