في وداع السيّد أورفان / ميس داغر

في وداع السيّد أورفان

تأمّلَ ملامحَهُ أمام المرآة، فشعر –مثلما بات يشعر كل يوم- أنه غريبٌ حتى على نفسه. “ياااه، كيف تخذلنا الحياةُ وتُعلّق أقدارنا في أكفّ العفاريت!” حدّث نفسه وهو يتحسّر على جليسٍ مفقود، كان ليبثّ له حزنه.
في شُقّته، في الطابق الرابع من بناية رقم 5 في جادة لوركيز، أمضى رغيفُ الخبز الأخير في الإمبراطورية وقتاً كافياً أمام المرآة، يجهّزُ نفسه للرحيل. المعطفُ الرمادي الطويل، الكفيل بإخفاء منحنى استدارته، النظارة السوداء التي تخفي نصف وجهه القمريّ، اللفحة الصوفية الثخينة وقبعة الفيدورا، اللتان تطمسان أية علامة متبقية تشي بهويّته. ضبَطَ هندامَه، وحدسٌ غامضٌ يساوره بأنّ الأمور بعد هذا اليوم لن تجري كسابق عهدها على ضفة نهر ياردون، وهذا سببٌ إضافيٌ بالنسبة إليه ليأخذ باحتياطات النجاة. الاحتياطات التي اعتاد الأخذ بها في كل نزول له إلى شوارع الامبراطورية منذ أن جاعت.
وقفَ لدى الباب يلقي النظرة الأخيرة على زوايا شقته. استشعر روح الكآبة والتعاطف تنبعثُ من كل الزوايا؛ لكأنّها تبادله وجع الوداع، وتمدّ إليه –في الوقت ذاته- كفّاً أثيريةً حانية، تربتُ على ظهره وتقول له: انفذ بجلدك والربّ معك. موجوداتُ الشقّة تشي بتفاصيل الأيام الأخيرة القاتمة لرغيف الخبز في هذا المكان. الفرن المعطّل، الذي عقُمَ عن الإنجاب منذ زمن. صورُ الخميرة الراحلة، التي يحتسبها الآن في السماء. سلّة القشّ التي اختفت تحت طبقات الغبار في انتظار استضافة أي رغيف زائر. أعقاب السجائر، الحبوب المنوّمة ومضادات الاكتئاب. زجاجات الكحول الفارغة، والصفحات المنزوعة من تراجيديات إسخيلوس. كلّها تفاصيلُ حياةٍ أسقمتها الوحدة، فلم تعد تحتملها نفسُ رغيف الامبراطورية الأخير.
أغلق باب شقّته إلى الأبد. هبط السُلّم يحملُ حقيبة السفر. مرّ على العجوز الطيب أوغستين، حارس البناية، فسلّمه مفتاح الشقة. كان بودّ رغيف الامبراطورية الأخير أن يحضن العجوز أوغستين، فيكشف له حقيقته ويبكي على كتفه. لكنه آثر حفظ سرّه في صدره حتى اللحظة الأخيرة. غريزةُ البقاء تُحتّمُ عليه هذه الحيطة. ليس بمقدوره ائتمانُ أي بشريّ- حتى لو كان الطيّب أوغستين- على حقيقة كونه رغيف خبزٍ وليس إنسانا.
العجوز الطيب أوغستين، مثلُ جميع سُكّان جادة لوركيز، لم يكن يعلمُ شيئاً عن حقيقة رغيف الخبز المتخفّي سوى أنه السيد أورفان، الغامض غريب الأطوار صاحب المعطف والقبعة، والذي يسكن في الطابق الرابع من البناية. لهذا، عندما غادره السيد أورفان فصعد السلّم ليتفقد الشقة بعد رحيل صاحبها، لم يكن ليتوقع ما سيجد.. آثارُ طحينٍ تملأ المكان! الشقّة تفوح برائحة رغيفٍ هرب للتوّ بمعطف وقبعة!
***
مثلُ محاربٍ فيتناميّ قديم، ركنَ السيد أورفان حقيبته جانباً، وأخذ يتمشّى بعرجته على الضفة المعشوشبة لنهر ياردون. دخانٌ كثيفٌ تصاعد من غليونه وسط صقيع الأجواء، وحنينٌ مجنونٌ نزعَ قلبه إلى ذكرياتٍ سبقت النزوح الكبير للأرغفة: سلّة خبز مطمئنة في مطبخٍ دافىء، عائلة بشرية لا تعرف الجوع، زملاء سَكَن يشاركونه نفس السلّة، خميرة عزيزة ابتُليت وإياه بخوض التجربة. كلّها ذكريات هيّجها في ذاكرته رحيلُ الأرغفة جميعاً من الامبراطورية، وبقاءه وحيداً مُيتّماً، مثل شقيقة نعمان يائسة على الضفاف الحزينة لنهر ياردون.
الوحدةُ شعورٌ صعبُ الاحتمال. قُشعريرة بردٍ تقرصُ قلباً خاويا. لا يُدركُ معنى الوحدة بحقّ إلا ثلاثة: مسنٌ يراقب المارّة من شرفة دار العَجزَة، في غروبٍ كئيب. ويتيمُ أبوين في حفل المدرسة الختاميّ. والسيد أورفان، رغيفُ الخبز الوحيد المتبقي في الإمبراطورية.
لم تكن مريم العذراء إلاّ لترجف روحها فتهبط على ركبتيها تصلّي للربّ هلعاً على حياة السيد أورفان، لو أنها شاهدت الذي حدث بعد دقائق من تمشّيه على ضفة نهر ياردون. العجوز أوغستين نزل من الشقة يصيح، يفضحُ حقيقة السيد أورفان في لوركيز وما حولها. والحشود البشرية التي روّعتها الصدمة، تهرول الآن مثل كتائب عسكرية من جادة لوركيز باتجاه ضفة نهر ياردون.
حدّق السيّد أورفان بقلقٍ في الجماهير المتقدّمة من بعيد، ما حَدُسَ به في الصباح يقترب. كل ذرة طحين في بدنه أنبأتهُ بهذا. في اللحظة التي تأكد تماماً أنّ الحشود البشرية الهائلة تركض باتجاهه.. تذكّر أنه نسي مسح بصماته الطحينية من الشقة قبل المغادرة.
في اللحظة إياها، تجمّدت الحياةُ التي علّقت قَدَر السيد أورفان في أكفّ العفاريت. مظاهر الحياة في العالم كلّه حبست أنفاسها، باستثناء النَفَس الملتهب في أوصال السيّد وهو ينجو بكرامته إلى الحرية. الحرية الحقّة، ولو كانت في الموت المؤكد. لأول مرة منذ عهدٍ بعيد، خلع السيد أورفان معطفه السابغ عن بدنه، فتجلّت استدارته القمحية البديعة، مثل قرص شمسٍ ينيرُ سماء الامبراطورية. ثمّ تدحرجَ إلى نهر ياردون برباطة جأش كولونيل، في مشهدٍ حسّر الحشود التي كانت نسيت كيف هي استدارات الأرغفة. غاص في النهر مرةً لم يخرج بعدها أبدا.
دقائق انقضت، وكانت ذرّاتُ طحينه الطاهرة تطفو على نهر ياردون المقدّس.
هبّت ريح، وتجمّعت سُحُبٌ ثقيلة داكنة في سماء النهر. ثمّ هطلت كأنما هي نواحٌ عاصفٌ لقدّيسةٍ أفزعتها نذالة العجوز أوغستين.
لكن.. (قد يتساءل باحثون تاريخيون في المستقبل بمرارة): هل حقاً كانت جماهير الإمبراطورية لِتُخوزِقَ السيد أورفان لو أنه وقع في قبضتها؟
في الحقيقة لا. إنّ كلّ ما كان يرجوه أبناءُ الإمبراطورية هو أن يكحّلوا أعينهم بمشاهدة رغيف خبزٍ حقيقيّ يتجوّلُ بطمأنينةٍ بينهم. لقد هزّ ضمائرهم اكتشافُ أنه في الوقت الذي كان الملايين منهم يحلمون باستضافة كِسرة خبز مجهولة المصدر والاحتفاء بها، كان هنالك رغيف خبزٍ مكتمل البُنية، رفيع النسب، يُعاني من عُزلة فظيعة وغير مبررة، في إحدى شقق الطابق الرابع من البناية رقم 5 في جادة لوركيز.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى