“في حضرة الغياب …أمي ” / محمد سعود شواقفة

“في حضرة الغياب …أمي ”

كانت تنظر إلي و في عينيها حيرة و رجاء … كانت تحرك يديها الضعيفتين بإيمائة تتحرك بشتى الاتجاهات … تحاول إستجماع كل قواها كي تخبرني بما تريد …. تارة تنفرج شفتيها عن إبتسامة خجلى تزيد من حيرتي و ارتباكي و تارة ترتسم على جبينها انفعالات بأن صبرها قد نفذ …. و أنا متسمرا على ذات الحال في ذات المكان ….

ذهبت بعينيها الى ذلك الركن البعيد تقلب اشياء و تعيد ترتيبها بصبر و أناة …. تبدو كمن يبحث عن شئ ما و لكنه في رحلة البحث أعجبته قارعة الطريق فتوقف يتأمله و كأنه نسي وجهته الأصلية …. عادت إلي بنظراتها تتأملني أو تحاول يائسة أن تخبرني بشئ ما …. فلا تستطيع فتبكي بصمت و بدون دموع….. أقتربت منها و ضممتها إلى صدري و طبعت قبلة على جبينها …. لم تنجح في ضمي و لا في تقبيلي مع انها كانت لا تحرمني منهما كلما كنت قريبا منها…. و لكنني أمعنت في الابتعاد حتى لم تعد قادرة على ذلك رغما عنها ….و راحت تهمس كأنها تقرأ تميمة بينها و بين نفسها بصمت مطبق و بدون حروف و تمسح على رأسي بيدها الواهنة …. نظرت إليها محاولا ان افهم ما تريد و لكن هيهات فهي لم تعد قادرة على الكلام و انا لم اعد قادرا على الفهم و التواصل ….

كنت أسترق النظر خلسة كي لا تشعر بحيرتي و أحاول أن أخفي ضعفي و قلة حيلتي و لكنها رغم هدوئها و صمتها كانت تراقبني بعينيها كلما تحركت … تبتسم اذا ما ابتسمت …. و يغمر صفحة وجهها حزن اذا ما انفعلت او غضبت ….كنت أحبس دموعي فلا أبكي أمامها ….. لكن اليوم …. هزمتني دمعة حرى و تمردت على حبس جفوني و انطلقت ملبية نداء القهر و التيه …. تفاجئت بيدها الدافئة تمسح دمعتي تأمرني بعدم البكاء …. لم اتمالك نفسي و شعرت بها تتضائل في حضرة الغياب ….

مقالات ذات صلة

لم يعد للكلمات معنى … و لم يعد البوح له قيمة …. فقد حفر الاسى و الالم علاماته ذكريات تشكلت كتجاعيد كثيرة على ذلك الوجه الرقيق …. و تسربلت خيوط الشيب غير الكثيرة من بعض خصلات الشعر المختبئة …. و عدت الآن بعد أن تملكتني الدنيا في رحلة البحث عن السعادة محملا بالهموم و الاحزان …. فسعادتي كانت بين يدي و لا أراها …. لكنني لم أعرف انني لن أجد من جذوة روحك المتقدة سواء رمادا باردا. عندما غاب صوتك رحلت طيور النوارس و لم تعد للشاطئ مرة أخرى …. و لم تعد الامواج تجلب في طياتها اي حكايات ….فقصصنا جميعا كنت بدايتها و لكننا لا نعرف لها أي نهايات لا تقولي شيئا ….

فأنت بطلة كل حكاية … و لكنك الآن أسيرة الغياب .

لقد أعدتني بصمتك لغياهب الذكريات …. اسمع صدى كلماتك تناديني …. تأخذني طي زمان الاغتراب …. سنوات من البعد و الفقد و الضياع …. تحملني امواجها من بين موانئ الارتحال و الهجرة … و ترميني على شواطئ قدميك حيث رائحة الجنة ….. اتذكر حين كنت تغنين لي قصائدا نظمتها الأيام و لم أك أعرف أنني كنت في حضرة شاعرة من طراز رفيع صقلت موهبتها صنوف الدهر و غابر الأيام …. لجهل مني و سوء تقدير …. أتذكر تراويد النوم و أغاني الفرح الذي فقدناه … لأننا لم نفتقده في الوقت المناسب و لم تلتفت أضغاث أحلامنا إلى مرارة الفقد و قسوة الغياب … و سلبتنا الغربة ايامنا … فرحلت ذاكرتك و صوتك … و لم يبق لنا سواء جسدك النحيل يصارع من أجل البقاء … بدون أمل مجرد من الروح.

أمي …. يا سيدة النساء في ضميري …. لو يهجرك الصمت و تعود إليك لحظة ملكة النطق بالكلمات التي نحب أن نسمعها …. لو أنك تمتلكين البوح مرة أخرى همسا أو وشوشة … إيماء أو حتى زفرات …. آه تتبعها آهات …كم أشتاقك تنادي إسمي و تقولي حبيبي ….

“دبوس على قساة القلوب

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى