في العلبة الزرقاء / يوسف غيشان

في العلبة الزرقاء

نظرت المريضة إلى ابنتها، وأشارت إلى علبة زرقاء تبدو في رف المطبخ. عرفت العلبة، لدينا في البيت مثلها، فتوقعت أنها تريد أن تخيط شيئاً. جاءت منار بالعلبة وفتحتها، فإذا بها ملأى بقطع الشوكلاته، تفاجأت من المنظر وقلت مستغربا:
– يمه، شوفي.. بحطّوا الشوكلاتة في علبة الخياطة!.
ضحكوا جميعاً، أمي ضحكت حتى امتلأت عيناها بالدموع. المريضة ابتسمت، وقالت لي بحنان:
– يا حبيبي، هاي علبة شوكولاتة، لما تخلص بنحطّ فيها إبر الخياطة والزرّه.
تناولت أكثر من حبة، ولم آبه لسخريتهم، لأني لم أصدقهم أصلاً.
أمي شعرت بأنها بالغت في السخرية مني، وأدركت أن بيتنا لم تدخله علبة الحلويات هذه، وعلبة الخياطة التي لدينا حصلت عليها من جارتها، فقالت بحنان، أحسست بأنه مصطنع:
– خلص يمه، العيد قرّب.. والله لجيبلكو علبة شوكلاتة مثلها.
أكره الأعياد وأتحول أثناءها إلى كائن مقموع ومضبضب وحزين ينتظر انتهاء هذه الهيزعة التي أكون فيها مثل الطالب اليتيم في حفل مدرسي على شرف الآباء.
في الأعياد، كنا نعاني أضراراً بيولوجية، حيث كان الوالد يأخذنا إلى صاحب محل كنادر (بالة خلاعية خربانة) يعالجها على سندانه الصدىء. ولما كنا نخشى أن لا يجد الوالد أحذية على قياسات أرجلنا، فقد كنا نوافق على أول فردة حذاء ندحشها في حوافرنا.
تبدأ المأساة صباح يوم العيد، حيث نكتشف أن الفردة اليمين واسعة والفردة الشمال ضيقة تفتك بأصابع أقدامنا، المدماة أصلاً، بكل صرامة، فتسيل الدماء، ونظل نعرج بكل أبهة، لكننا نقنع الأهل بأن المشية العرجاء هي من مقتضيات «الجعصة» في العيد، وكانت هذه الكذبة تمر عليهم، لأن معظم أولاد الحارة يمشون بشكل أفكح احتفاء بهذه المناسبة السعيدة.
أما البنطلونات فحدث ولا حرج؛ إذ كان شراء الكندرة يشي بأننا سنظل لثلاثة أعياد قادمة بلا بنطلونات (من البالة طبعاً)، وهذا ما كان يجعلنا (نحرن)، وندعي المرض وننسدح في الفراش بينما يدخل المهنئون بالعيد ويخرجون، حتى لاحظ أحدهم أننا لا نمرض، إلا في الأعياد من عبارة أطلقتها.
كان أخي متمارضاً كالعادة، لأنه لم يحصل على بنطلون طازج منذ آخر زيارة لمذنب «هالي»، وحينما سألني ذلك الزائر عن المرض الذي يعانيه أخي، قلت له بكل سماجة:
– بنطلونه بوجعه.
ضحك الجميع، ولم أضحك، ولم يضحك أخي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى