عربكان / سعيد ملوكي

عربكان
اجتمع الشيخ، أسد قبيلة عربكان بأعيانها، بعدما أصبحت أراضيها مهددة من الخارج، و أصبح وجوده في خطر. حملق في وجوه الحاضرين، وجوه لم تتغير، لكن بطونهم انتفخت، مما أثقل ألسنتهم و جعلهم لا يقوون حتى على الكلام أمام سيدهم. شعر بارتياح، وتيقن أن حاشيته راكبة في نفس السفينة، واذا تهدم السقف، صار الجميع في خبر كان. لكن الخطر الذي يحدق به و بالقبيلة، جعله يتراجع خطوة الى الوراء، و ينزل درجين من سلم الجبروت و يدعو الى الاجتماع، ليس لاتخاذ قرار ما، ولكن فقط لمعرفة ما يدور في خلدهم. فهو لا يمكن له أن يسمع صوتا غير صوته. لقد تربى على أن الشدة و البأس تفرضان الاحترام و الطاعة.
تجرع مرارة التواضع و جلس القرفصاء أمام الأعيان. مدد بصره من خلال باب الخيمة المفضي الى الخلاء : حرارة و سراب على امتداد رؤيته. فحص سجل تاريخه و لم يجد الا سلالته لإضفاء الشرعية على سلطته. فالخيمة التي يجلس تحتها قد ورثها ابا عن جد، و هي الان تتآكل تحت أشعة شمس محرقة.
أخذ منديلا فمسح به العرق الذي يتصبب من جبينه، مما جعله يعيد النظر الى أرجاء الخيمة. طلب فنجان قهوة، كشر عن أنيابه قبل أن يزأر. ارتعدت الخيمة واستفاقت من سباتها. وثب أسد القبيلة على موضوع الجلسة قائلا :
ـ ان أسد القبيلة لم يهن بعد حتى تلعب القطط في عرينه. و النيران التي تشتعل على أطراف القبيلة تغذيها قبيلة زركشان من حطب طالما كان وسيلة توترات وفتن. انها تتحين الفرص للسيطرة على “الثلت الخالي” من أراضينا. لقد تغولت قبيلة زركشان و أصبحت تهدد استقرارنا. سنواجهها بالاستعانة ببلاد الروم.
نفذت الحرارة داخل الخيمة مع هبوب رياح خفيفة حارة. استفاض أسد القبيلة في الحديث عن المخاطر التي تحدق بالقبيلة، عاد الحضور الى سباته.
أخذ بعده الكلمة صهره، يده اليمنى التي بها يصفي حسابته مع كل من عارضه. وبينما هو غارق في المدح، أخذ أسد القبيلة يفكر في ممتلكاته و السبل التي تمكنه من جعلها في مأمن.
أطنب صهره في الحديث عن عصيان بعض أفخاذ القبيلة التي رفضت تأدية المكس و أثنى على دور الحركة في كسر شوكتهم.
زادت الرياح من حدتها وأخذت الخيمة تترنح تحت وطأتها، وأسد القبيلة غارق في التفكير في ممتلكاته. لقد قضم كل خيرات القبيلة.
في خضم الخضوع، كسر الصمت شيخ وقور، وضع حياته في كف، ومستقبل القبيلة في كف، ولم يجد بدا من الصراحة، فصدح قائلا :
ـ إن قبيلتنا تتعرض لمؤامرة كبيرة، أصبحت تعيش في وضعية خطيرة…
كشر أسد القبيلة عن أنيابه، برزت عيناه حتى كادت أن تخرج من حجاجها، التقط الشيخ الاشارة، انحنى للعاصفة.
ـ سيدي أنتم أسد القبيلة، أطال الله في عمركم وجعلكم حصنا منيعا لها، سوف تدحرون و تهزمون إن شاء الله كل أعدائكم. فأنتم من قال فيهم الشاعر
ما شئت لاما شاءت الأقدار*** فاحكم فأنت الواحد القهار
انفرجت أسارير وجه أسد القبيلة. استرسل الشيخ في كلامه :
ـ نعم سيدي، إن قبيلتكم قوية برجالها، منيعة بفرسانها، و قوتها تكمن في ذاتها. والاستعانة بالافرنج كمن يدخل الذئب الى حضيرة الخرفان.
نهض أسد القبيلة مشهرا سيفه في وجه الشيخ، صارخا : ـ خذوا هذا الزنديق، القوه في السجن حتى نتدبر أمره.
جلس محدقا الي أعيان القبيلة و خدامها. جلس ثم قام من مقامه ويده على سيفه، مخاطبا الحضور :
ـ أنا أسد القبيلة، الذي يتدبر أمرها، فأنا الآمر و الناهي، والمقرر والمانع، فلا صوت يعلو فوق صوتي. أنتم، ما عليكم الا أن تطبقوا أوامري. وعليكم أن تحسنوا أوضاعكم : اشتغلوا بالتجارة فأبوابها مفتوحة لكم و اتركوا لي السياسية . فلكم جميع الامتيازات. ..
أدار وجهه الى صهره طالبا منه الاستمرار في المفاوضات مع الافرنج و منحهم جميع الامتيازات.
لم تمض الا بضعة أيام حتى انتشر في القبيلة خبر وصول أسراب الجراد الى التخوم الشرقية. ساد الهلع وسط الناس. واحة النخيل، مصدر عيشهم، مهددة.
طال انتظار زحف الخطر. مضت أيام و أيام، وما كاد الناس ينسون الجراد حتى انتشر خبر اصابة الماشية بمرض خطير، دائما على التخوم الشرقية. كثرت الاشاعات و لا أحد استطاع أن يأتي بالخبر اليقين، الا صهره الذي أخبره :
ـ ان الدولة الافرنجية الصديقة العظمى فد أنشأت قاعدة عسكرية في الشرق، و أن الميناء الوحيد أصبح يشتغل جل الأوقات مع سفن الافرنج مما يعيق الرواج الاقتصادي و ينقص من مداخل الضرائب، حتى أن خزينة القبيلة أصبحت شبه فارغة. وهناك استياء من معاملة الافرنج لسكان القبيلة.
هز أسد القبيلة رأسه في اشارة مبهمة، ثم نظر الى صهره، ولأول مرة يشد على يديه قبل أن يقول له :
ـ تدبر الأمر دون ازعاجهم. فليس لنا مخرج آخر. .
ـ هناك عواصف وزوابع آتية من الشمال يسبقها هدير الغاضبين.
– كفى، كفى، أعلم ذلك…
سكت برهة، قام من مكانه، خرج من الخيمة و هو يجر أطراف ثيابه. أدار وجهه الى صهره
ـ اتاني البارحة ماريا خوسي سنتوس يريد شراء ارضيَ، قم باللازم، وحاول معه أن يكون الثمن مناسبا. أما النوق و الجمال وأملاكي الاخرى، فقد كلفت خازن القبيلة ببيعها ووضع الاموال في خزائن روما. لا ندري ما يخبئه الزمن.
ـ و الخيمة؟
ـ “مالها الخيمة؟”
ـ إنها تترنح تحت وطأة الرياح.
ـ آه، كدت أنساها، ضعها في المزاد العلني.

سعيد ملوكي
سرير بروكوست

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى