سيّدي توتو حفظه الله/ ميس داغر

سيّدي توتو حفظه الله

عندما أصبحتُ في الصف الثالث الابتدائي، كان بمقدوري أن أدرك تماماً أنّ صديقي المقرّب توتو يعاني من خطبٍ ما في ذهنه. لم أستطع تحديد علّته بالضبط، غير أنني علمتُ أنّ عقله ليس كباقي العقول في الفصل الدراسي.
لم يعانِ توتو من تخلّفٍ عقليٍ بشكلٍ واضح، غير أنّ ركناً ما من أركان دماغه كان مضروباً. لم أدر أيُّ ركنٍ هو. ربما كان ركن المنطق، أو ركن التمييز، أو ركن اختيار الكلمات المناسبة. لا أدري، فقد كنتُ – وما زلتُ- غير ضليعٍ بمادة الأحياء.
كان توتو، على سبيل المثال، إذا صادف عراكاً بالأيدي والأرجل بين عدد من صبيان المدرسة في الباحة، يستشيط غضباً ويبدأ بالصراخ عليهم: تفو عليكم يا أولاد الكلب. اخرسوا اخرسوا.
ليس فقط أنني اكتشفتُ أنه يدّس ذنبه – على نحوٍغريب – في مواقف لا تخصه ولا تخصني، ويتفاعل بطريقة جنونية مع هذه المواقف، بل بدأتُ ألاحظ كيف أنّه يستهلّ جمله بعبارات لا تتلاءم مع العبارات التي ينهيها فيها؛ فما هو الرابط مثلاً بين ( تفو عليكم يا أولاد الكلب) و ( اخرسوا اخرسوا)؟ بل ما هو الرابط أصلاً بين هاتين الجملتين وما يقترفه الأولاد في الباحة من عراكٍ بالأيدي والأرجل؟
أشعرني ذلك بالحرج في مرات كثيرة، فقد تنامت تهكمات الأولاد على شخص توتو وكلامه تنامياً مطّرداً، وكانت تهمّني كرامة توتو وسمعته. إن كرامتي من كرامته: ألسنا صديقين مقربين؟
وهكذا درج توتو على بدء جمله في باريس وإنهائها في مزبلة قريتنا، في حين أنّ حديث صبية المدرسة يكون عن قضايا وراء المجرة!
أصبحتُ مع الوقت أشعر بعبء العلاقة مع توتو الذي كانت زاوية انفتال مخّه تتعاظم مع الزمن.
عندما أصبحتُ في المرحلة الإعدادية، باتَ توتو بالنسبة لي الصديق النكتة الذي لا أتحدث معه إلا كحديثي مع أخي الصغير، كما أنني لم أأتمنه على سرٍّ قط، فبطنه لم يكن تطور إلى مستوى احتواء الأسرار.
كان هو زميل الدراسة الذي أحبّ نقل نهفاته التي لا تنتهي إلى أفراد أسرتي لأعدّل أمزجتهم في النهارات الكئيبة، فنضحك كثيراً وننسى هموم الدنيا. وقد دسّ حسّ الدعابة في مخيلتي اسم توتو في بيت شعرٍ عربيٍّ زيادةً في التندر على صاحبي الذي بدا تافهاً في نظري:
إذا بابُ أمرٍ عليك التوى فشاورْ( تويتاً) ولا تعصِه ِ
كانت أمي تكاد تفطس من فرط الضحك عندما كنتُ اُسمعها هذا البيت. فما تلبث أن تزجرني قائلة: “بكفي يا ولد. عيب تضلك تتمسخر عاولاد الناس!”، ثم تقعُ بكفيها على ركبتيها من شدة الضحك مرةً ثانية.
وبرغم توقف الجميع عن مناداتنا بألقاب التحبب التي أسدلوها علينا في صغرنا، إلا أنّ توتو بقي توتو، ولم ينادهِ أحدٌ باسمه الحقيقيّ قط، برغم الشنب الخفيف الذي بدأ يرتسمُ فوق شفتيه.
في ظهيرةٍ لا أنساها أبداً، تغيّر كلّ شيء فيما يتعلق بمشاعري تجاه صديقي النكتة. صدف أن كنتُ أمشي وحيداً خلف اثنين من المعلمين أثناء الرواح من المدرسة، فأتى أحدهما على ذِكر توتو، وابتدآ بتبادل الأفكار حوله. وكانت خلاصة الأمر أنهما يريان في توتو صبيّاً يستحثّ الشفقة في القلوب، لأنه ينتمي إلى بلاد لا تولي اهتماما حقيقياً لحالته وحالة أمثاله ممن هم في حاجة ماسة إلى عناية دقيقة؛ ففي تلك الدول التي تولي مواطنيها عناية تليق بمقامهم كبشر، كما تحدّث معلماي، يتم إلحاق توتو وأمثاله بمدارس خاصة تتلاءم وقدراتهم واحتياجاتهم، وتتم رعايتهم من قبل الدولة مدى الحياة.
تحدثا أيضاً عن مقدار الارتباك والتوتر والإساءة لتوتو التي يخلقها وجوده في صفٍّ للأولاد الطبيعيين.
كنتُ للمرة الأولى في حياتي أسمع حديثاً جادّاً كهذا حول توتو. توتو يُصنّف رسمياً على أنه غيرُ طبيعي. اهتزّ قلبي في مكانه، وشعرتُ بألمٍ فيه تتخلله شفقة عظيمة على توتو، وكرهتُ نفسي أيضاً.
أنا قليل الإحساس والأدب والإنسانية. كيف تعاملتُ طيلة هذه السنين مع توتو بهذه الدناءة، في حين أنه حالة غير طبيعية تستدعي الشفقة؟
عاتبتُ نفسي كثيراً في الأيام التالية، وجلدتُها. مسكين توتو! توتو الغلبان الذي جعلتُ منه تسلية الأوقات المملة! لا ريب في أنني لا أستحقُ أن أكون صديقا له.
الزمن المتلوّن كحرباء وحده أثبت لي أنّ المعلمين – المرحومين اليوم – لم يكونا على صوابٍ أبداً فيما طرحاه من أفكار، خصوصاً في ذلك الجزء المتعلق بتخلف بلادنا في مجال رعاية توتو وأمثاله. فبعد سنواتٍ كثيرةٍ على كل ذلك، ضاعت أسماء أبناء صفي الطبيعيين جميعاً في دهاليز لقمة العيش فوق هذه الأرض، بخلاف توتو، الذي أصبح اليوم في مركز قياديّ متقدّم في بلادنا الموقرة!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى