دراسة فلسفية في مشكلات المعرفة /د. هشام الدباغ

ـ دراسة فلسفية في مشكلات المعرفة
ـ نافذة على العرفان.. جنة الإنسان
د. هشام الدباغ

المبحث الذي نضعه بين يدي القارئ الآن هو محاولة جاهدة للوصول إلى حقائق بعض التعريفات التي تشغل المثقف العربّي بوجه خاص ، ولها أهمية عامة لدى الإنسان الواعي كائنا ما كان.

وهذه التعريفات العلمية والفلسفية هي مفاتيح لحقائق دأب الفكر الإسلامي لأزمنة طويلة في تبسيطها لتصبح في متناول المثقف العادي، لكي يسترشد بها ويرشد بها من حوله.

قلنا إنها “مفاتيح” فهي ليست جماع المعارف، ولكن المفتاح الصحيح يدخلك إلى ما تروم إليه من تدين وعلم وفلسفة وفن وأدب، وبالتالي إلى سعادة غامرة. كيف يتأتى لنا ذلك وبأبسط ما يمكن عن عبارات ؟؟ ما من شك أن وسيلتنا إلى ذلك هو “العقل”.
آه من العقل ومن طاقاته وامتداده وخضوعه وجبروته.. طاقة

عجيبة ، تراه حينا في منتهى الضعف ، وتراه حينا يمثل كل جبروت القوة، إنه مرآة الإنسان في جميع أحواله وتقلباته ، هذا الذي يشغلنا دوماً كيف هو ؟ وهل بالإمكان وضع هذه الطاقة تحت التحليل النفسي الدقيق لنتعرف عليه وعلى آثاره ؟‍ .
نعم.. إن الدراسات الفلسفية التي خاض فيها ” محمد إقبال ” الفيلسوف الإسلامي وبيرغسون وهيجل وكانط والإمام الغزالي والإمام السهروردي حكيم الإشراق ـ أثبتت ذلك . أن قنوات المعرفة

الرئيسية : ثلاث.. فهي إما أن تنبع عن طريق الحواس الخمس ، وهي وكما هو معروف السمع والبصر والذوق واللمس والشم ، فهذه الحواس تقدم معلومات عن الأشكال والأسماع والطعوم والروائح ومدى السخونة والبرودة واليبوسة والرطوبة ، لكنها تختلف من شخص لآخر، فما أراه أنا جميلاً قد لا تراه أنت كذلك.. وهذه المعلومات تختلف عند الشخص الواحد في حالة الصحة وحالة المرض . لذا من الصعوبة بمكان الركون إليها في مصداقية المعلومات التي تقدمها ، والقناة الأخرى التي -تمدنا بالمعلومات هي قناة العقل.

فعندما نقرأ قصة حافلة بالأحداث والشخصيات فإن العقل قادر على تخيل هذه الأحداث والشخصيات من حيث التركيب الجسدي والعاطفي والعقلي ، فيُصدر العقل أحكاماً “عقلية” على شخوص وأحداث يراها بعين الخيال ، وما يراه حقيقة إلا السطور على الورق ، ولكن قوة التخيل في العقل البشري كفيلة بإكساب المرء معلومات من صياغات العقل..

ولكن هذه المعلومات تختلف من شخص لآخر حسب التربّية الثقافية والبيئية ومستوى الذكاء وقوة الخيال وضعفه.

كيف نصل إلى الحقيقة إذن ؟

يقول الإمام الغزالي أن ثمة قناة ثالثة أسماها الحدس، هي القناة التي يمكن الركون إلى أحكامها، فالحدس قناة واسعة الأرجاء متصلة بمنابع الإلهام، فالملهَم اسم مفعول يقتضي أن يكون تابعاً لفاعل ، ” فالفاعل” هو الله سبحانه و ” القابل ” هو المخلوق..

وبين الفاعل والقابل ثمة نور أزلي أبدي متغلغل بالكون كله.. أشار الحق إليه سبحانه في آية النور. ” الله نور السماوات والأرض”.. وملكة الحدس هذه لها حالات من الضمور إلى الاتساع، ويمكن تنمية هذه الملكة عن طريق السلوك في طريق الحق.. والطريق هذا له اشتراطات ومحطات يقطعها السالك من محطة إلى محطة حتى يصل إلى اليقين، فتنفتح أمام “الواصل” مغالق علمية وكونية تتلقاها “البصيرة” وهي لطيفة ربانية أودعها الحق في قلب الإنسان المرتقي إلى مرتبة الإحسان بالتقوى والفضائل ، مصداقا لقوله تعال: ” اتقوا الله ويعلمكم الله” “والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا”.

أرجو من القارئ الكريم أن يتحلى بالصبر والأناة ، فلا يظن أن الحدس جوهر مختلف عن العقل.. صحيح أن التسمية اختلفت ، إلا أن الجوهر واحد ، وهذه التسميات المختلفة هي التي تُحدث في كثير من الأحيان الارتباكات في الذهن والفهم، ولكن إذا تأكد المتلقي أنه يتعامل مع جوهر واحد له تسميات مختلفة حسب درجة التلقي فيصبح الموضوع عندئذ قابلاً للاستيعاب ، ويعم الوئام والسلام بين أهل المذاهب ويتبدد الفرق بين الفرق.

باختصار شديد، الجسم البشري مؤلف من مادة وطاقة.. فمادة الجسم من جلد وعظم ولحم وشرايين وأعصاب وأسنان ودماء كلها ملموسة منظورة، أما طاقة الجسم فهي التي اختلفت التسميات بشأنها، فهي تارة نفس ، وتارة عقل وتارة بصيرة ، وتارة وجدان ، وتارة روح ، وتارة قلب (القلب في المفهوم القرآني، لطيفة ربّانية، أي طاقة ربّانية، هي مستودع المشاعر والأحاسيس والإلهام، وهي من شدة اتساعها يقول الحديث القدسي بشأنها “وما وسعتني أرضي ولا سمائي ، ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن” فالقلب في المفهوم القرآني ليس المضخة وإنما هو ما أشرنا إليه آنفا.
هذه الطاقة التي تتسربّل بجملة من التسميات هي التي حيّرت العلماء والفلاسفة، ولكن أهل الحقائق والرقائق قدموا عنها الدراسات المطولات، مما يجعلنا نستخلص منها ما يضعنا على طريق المفاتيح التي نفتح بها

المغاليق ، وبدون هذه المفاتيح سنبقى ندور في فلك تهويمات شتى ، تضيع معها الحقائق ، وسنبقى نخبط خبط عشواء.

والآن دعونا ندخل إلى شيء من التفصيل حول هذه الطاقة التي تحرك أجسامنا ، ونحو مزيد من المعرفة بشأنها، ولكي نقتربّ من فهمها أكثر، لنتخيل أن هذه الطاقة عبارة عن بالون هوائي يملأ الجسم من الداخل ، فالجزء السفلي يسمى النفس ، وهي تلبي حاجة الجسم من شهوات ، ولا بد للمرء أن يقمع شهوات الجسم كي لا يتضخم الجزء السفلي من البالون الوهمي ، فيطغى السفلي على العلوي ، فالنفس الأمارة بالسوء يجب أن تُقمع حتى تبقى نفساً راضية ثم مرضية ثم مطمئنة ، فإذا تم قمعها بالصراط المستقيم صعد البالون بالجسم إلى محطته التالية وهي محطة العقل ، فينفعل عندئذ الجسم بالعقل فيُعقل عن الحرام ويسلك الحلال لأن ثمة “رقيباً” يحاسبه. عندئذ يرفع البالون الوهمي الجسم إلى محطة أعلى هي القلب ، فينقلب العقل إلى قلب لا يفتأ يذكر الرقيب الحسيب. “ألا بذكر الله تطمئن القلوب” . ومع كثرة الذكر والتفكر بالنعم والآلاء التي غُمر الجسم بأفضالها تنقشع الغشاوات (الران) ،”بل ران على قلوبهم” وعندما ينقشع الران ترتفع الحجب.

يلحظ صاحب الجسم الشفاف أن الأفعال والصفات كلها من فعل الطاقة الموصولة بأعلى محطة فيها ، وهي الروح الموصولة بمنبع الطاقات ، فيزيد الاطمئنان ، ويحلق الإنسان وهو على الأرض في رحاب الروح ، فيشعر بالمدد الروحي ، وتتسع منابع النور فيسلم الجسم وصاحب الجسم نفسه إلى المنبع يستلهم منه المدد الذي لا ينضب ، وعندما يصل الإنسان إلى هذا اللون من المعرفة يتأكد له أن هذه المعرفة هي أسمى المعارف ، عندئذ لا يرضى عنها بديلاً، فهي جنة المعارف، فخيرها عميم لكل صاحب قلب سليم “يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم”.

آه.. من العقل.. الذي لا يرتقي إلى هذا المفهوم، أعوذ منه ومن شروره ومن جبروته وجحوده وغروره … ويا جمال العقل الذي يرتقي إلى محطة القلب السليم ، ما أسعده في الدنيا والآخرة.. سعادة مهما عظم لدي البيان لا يمكن أن أرقى إلى عتبة عتباتها “يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة والدنيا والآخرة”.صدق الله العظيم .

قلنا عن هذه الطاقة أنها بالون وهمي.. ما أتعس التشبيه.. فالمسألة أكبر من ذلك بكثير ، إن التشبيه بالمحسوسات ظلم لهذه الطاقات ، فهي الأصل والجسم تراب ومآله إلى تراب.. فلنكل إذن العلم إلى العليم سبحانه ، فهو جل جلاله علّم الإنسان ما لم يعلم ، وعلم القلب مرتبط باليقين المتنزل من مشكاة “العلم اللدني” الذي قد يكون رذاذاً وقد يكون مطراً غزيراً حسب حظوظ المتلقي، وهذه “المعرفة” اللدنية هي معرفة مباشرة ، ومن الواضح أنه لا يمكن فهمها إلا إذا عُرفت ذوقا ، فهي معرفة ذاتية وتجربة خاصة ، ولا يستطيع المتلقي أن ينقل أبعادها العلمية والعملية إلى شخص آخر ، ولكنه يشير إليها ، وبنتائجها المعرفية بعبارات ورموز لا ترقى أبداً إلى مستوى الحدث نفسه فمن لم يذقها لا يعرفها حق المعرفة.. فلا يمكن أن تصلك المعرفة الحقيقية عن الثريد مثلا، إلا إذا تذوقت “الثريد” بنفسك، فالذوق يغني عن أي كلام (وكلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة).
وهذه المعرفة في جوهرها شعور غير ملفوظ لا تخضع لنواميس العقل القائمة على الدليل والبرهان ومشاهد العيان، ولكن المتلقي الملهم يشعر بها وبيقينيتها فلا يمكن إلا الانصياع لها.

ولكي نميزها عن المعارف العقلية ومعارف الحواس الخمس فقد أطلق عليها أصحابها اسم “العرفان.

فالعرفان هو ينبوع الإيمان المنبثق على أرض الوجدان من لدن الرحمن.

ويشير الدكتور محمد عابد الجابري إلى أن ثلث التراث الإسلامي مستمد من العرفان. أما الثلثان الآخران فيقومان على “البيان” و”البرهان”، فعلوم البيان علوم نقلية جلها في التفاسير وعلوم الحديث ومصطلح الحديث والفقه بمذاهبه الأربّعة.. وأما “البرهان فعلومه عقلية ، وهي العلوم والفلسفات والتطبيقات العلمية ، وقد حقق الغرب في علوم البرهان شأواً بعيداً في مجالات التطبيق العلمي والتكنولوجي وعاش في خواء روحي هائل ، لذا فقد ظل منهاجه عقليا محدوداً بحدود مادية، فهو يرى الكون بعين واحدة، في حين قال سبحانه ” ألم نجعل له عينين”.

أما “العرفان فهو معارف ذوقية تنجم عنها معايير أخلاقية رفيعة ، وتعبيرات شاعرية ووجدانية تتجاوز آفاق المادة ، وتستجلب سعادة وطمأنينة غامرة لا سبيل إلى وصف مراقيها بالكلمات والعبارات إلا بالرموز .

إن قوة الإلهام ليست مقصورة على أصحاب العرفان، فما كان عطاء ربّك محظوراً وهو عطاء دائم موصول من الأزل إلى الأبد. لكن أهل العقل أو أكثرهم يظنون أن عقولهم من صنع ذواتهم فتكبر عندهم “الأنا” -وهنا مكمن الداء – وقد جاء في تعريف العقل لدى فيلسوف كبير قوله :” العقل يا أخي هو جوهر صاف لا يخالط المادة ولكنه يتحكم بها ويسيرها كما يسير السائق سيارته. فالسائق ليس من السيارة وهو سائق من دونها ، ولكنه من دونها لا نقول عنه سائقا. والعقل مبدع ، أخذ إبداعه عن الأصل.. بديع السماوات والأرض ، فهو أخذ عن الأصل لينفعل بالفرع (الخلق) فهو تارة يقعد بين يدي الرحمن فيأخذ عنه كما يأخذ القمر عن الشمس ، وتارة يتنطع على مسرح الحياة آمرا ناهيا متبختراً جاحداً خالقه.. أعوذ منه إذا وقب.. أي إذا عتى عتواً يتنكر لمبدعه.. وهذا هو معنى الآية الكريمة “ومن شر غاسق إذا وقب”.

فالعقل هو عطاء الله الأثير وأداته الفاعلة بين الخلق ، فهو نور من نور، طاقة جزئية من طاقة كلية، سكن الدماغ ، ولكنه عندما يجول في عوالم الرحمن مستسلماً ومسلماً لمبدعه وخالقه نجده قد عقل بالنور

الأعلى ،يستلهم منه إبداعات واختراعات لخير البشرية جمعاء ” فالغاسق ” إذا وقب فهو شر، وإذا ضاء فهو خير، فالعقل إذن فيه نزوع إلى المطلق وشوق إليه.. نعم لديه نزوع داخلي للتخلي عن قيد المسكن المادي المرتبط به أبداً، ولديه كمون عجيب للعزف على أوتار الحنين إلى التجريد الكلي . ولئن كان العقل جوهراً لطيفا فإن الدماغ آلته ومركبه ، وهو وسيلة لظهور قواه ومواهبه ، التي تنتج أفكاراً قد تكون شريرة إذا كانت خاضعة لأهواء النفس الأمارة بالسوء ، وقد تكون خيرة إذا كانت مستلهمة من نور السماوات والأرض.

إن كل الاكتشافات العلمية التي تحققت لبني البشر إنما هي من نتاج عقل يعمل وحدس يستلهم، وتنمية العقل والحدس ليس من الأمور الطارئة في تاريخ البشرية، إنما هي أصيلة كما أصالة الفطرة، وينبغي أن ننوه بأن مفهوم العلم ليس بذلك المفهوم الضيق الذي يقصر العلم على العلوم الطبيعية والرياضية.. إن العلم يتسع ليشمل لا العمليات إلى تغيير الطبيعية فحسب، بل أيضاً العمليات الرامية إلى بناء الإنسان والمجتمعات لتصبح مجتمعات فاعلة قادرة متجددة متسلحة بجناحي العقل والإيمان. وهذا كفيل برقي المجتمع العربّي صعداً نحو آفاق ومستويات رائعة ، مع الأخذ بالاعتبار أن طبقات المجتمع تفترض وجود مفكرين وعمال وموظفين وتجار إلخ… لتتكامل عناصر قوته ونهوضه في إطار من المحبة والتعاون والتكامل والتكافل والإيمان والعلم ، ومن أبلغ التفاسير الملهمة لقول الحق عز وجل :”وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون” ما أشار إليه ابن عباس فأفاد بأن المقصود من “ليعبدون” هو “ليعملوا” لأن العمل عبادة “وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون”.

اللهم افتح علي بالقرآن بحق اسمك الأعظم،وجلال وجهك الأكرم وسبحات جمال وجهك الذي ملأ الكون ففاض بأنواره مما حملك على توسعته توسعة لا يحتمل أنوارها وهو في اتساع مطلق.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى