دجاجة كاترينا العزبة / يوسف غيشان

دجاجة كاترينا العزبة

جاء الناس من كل حدب وصوب لمعاينة الضيف الكبير، في الواقع، وصلوا منذ الصباح الباكر، وجلسوا على بوابة المدرسة بانتظار القادم الكبير. خليط عجيب من الرجال والنساء والأطفال، الأطفال يتدافعون بشغف وشيطنة حول الجميع. يحتمي بعض الأطفال بأبائهم أو بإخوانهم الأكبر سنا، بعد أن يعتدوا يدويا، وبلا مبرر، عدا الشقاوة واللعب، على أطفال أكبر منهم وأطول.
بين الفينة والأخرى تصدح بعض النسوة بأغان فولكلورية لا تكتمل، تقطعها زغرودة صادحة من إحداهن تشاركها الأخريات، بلا تحفظ، بينما تصفق بعضهن على الإيقاع، وهنّ يحملن جزادين مهترئة تحت الإبط الأيمن غالبا.أم خليل ضحكت حتى الثمالة على نفسها، بعد أن أدركت أنها تزمّ ذراعها الأيمن على جزدان لم تحضره معها أصلا.
انفجرت أم خليل بالضحك حتى اختلطت دموعها بمخاطها ولعابها، انتقل الخليط الى اكمامها، وهي تحاول أن تشرح لبقية النسوة عمّا حصل معها، لكنها عجزت عن التوقف عن الضحك. بعد دقائق أهملتها النسوة، لكنها استمرت بالضحك على حالها.
زريفة معصوبة الرأس تقف بجانب شقيقتها كاترينا العزبة. كانت زريفة قد انتقلت، قبل اشهر، بعيد وفاة زوجها الذي لم تنجب منه اطفالا، طوال الخمسين سنة المنصرمة،انتقلت للسكن مع شقيقتها التي لم تتزوج قط(لذلك يسمونها «كاترينا العزبة» لتمييزها عن بقية كاترينات الحارة)، كانت الشقيقتان تعيشان الأسابيع الأولى براحة واطمئنان، في الغرفة التي تعلو دكان أبي.
كاترينا العزبة معتادة على السكن وحيدة منذ عقود، لذلك فقد بدأت تشعر بالضيق تدريجيا، بسبب تواجد شقيقتها الدائم في الغرفة، فشرعت في ابتكار اسباب غريبة للشروع في مشاجرة مع زريفة المسالمة، ربما على سبيل السأم وكسر الروتين.ربما لم ترغب، وربما لم تستطع طرد شقيقتها، فالغرفة هي، في الواقع، إرث مشترك، لكن كاترينا احتكرت السكنى فيها طوال فترة زواج زريفة.
وصل الأمر بكاترينا ان تطلب من أحد ابناء شقيقها الصغار أن يجلب لها طبشورة من المدرسة المجاورة، وقامت بتقسيم الغرفة الى فلقتين غير متساويتين، حيث احتفظت بالجهة المطلة على الشارع والبرندة.
ارتضت زريفة بالقسمة الضيزى، ونقلت البريموس والفرشة، والصوبة الخضراء ذات الفتائل المضمخة بالكاز وبقية اغراضها إلى (نصف شقتها).ولم تعد الشقيقتان تتكلمان مع بعضهما.
الغرفة تضاء بالسراج، سراجان في الواقع، يضخان كمية كبيرة من السناج والدخان في جوف الغرفة. وضعت زريفة دجاجة مجمدة في صحن المنيوم، لتذوب بتؤدة، حتى الصباح، لكنها وضعتها، دون قصد ربما، على الحد الطبشوري الفاصل بين الدولتين الشقيقتين.
كادت كاترينا أن تتعرقل بالدجاجة، عندما أرادت الخروج لقضاء حاجتها، فما كان منها إلا أن حملت الدجاجة مع الصحن وضربتهما باتجاه زريفة، وهي نائمة، فأصابها في الرأس مباشرة . انبثق الدم من رأس زريفة مدرارا، وغطّى مناطق واسعة من الفاصل الطبشوري بينهما، محولا إياها، بكل أريحية، الى اللون الأحمر القاني.
صباح اليوم التالي، جاء (أبونا جليل) لمناولتهما القربان الأقدس في البيت، على عادته، مع كبار السن، الذين لا يستطيعون تجشم عناء الوصول الى الكنيسة، وشاهد رأس زريفة المعصوب بخرقة بالية، وبقايا الدم الممسوح عن الأرض، بلا عناية. لم يتكلم الكاهن في البداية، حسب العرف، لكنه بعد تقديم سر القربان، وانتهاء مهمته الدينية، استفسر عن السبب الذي أدى الى هذا الوضع المشبوه.
بعد لحظة صمت، كانت فيها كاترينا مطأطئة الرأس من الخجل، قالت زريفة:
-ولا إشي يا أبونا…شي حاد سمطني بين عيوني.
لم يسأل الكاهن عن التفاصل وخرج، في ذات اللحظة التي انهمرت فيها دموع كاترينا ومسحت ما تبقى من خط الطبشور المرسوم على أرضية الغرفة، فعانقت شقيقتها بامتنان، لأنها لم تفضح فعلتها الشنيعة امام الخوري وهكذا تصالحت كاترينا وزريفة، وتم الغاء الخط الطبشوري، وعادتا الى حياتهما،ما قبل معركة الدجاجة المجمدة، وجاءتا اليوم معا تتكئ كل واحدة منهما على الأخرى للمشاركة الميدانية في حفل الاستقبال.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى