خسارة هردبشتية / يوسف غيشان

خسارة هردبشتية
خسرت أفضل وأنجح استثمار في حياتي ، يا للخيبة .. كان استثماراً بلا رأسمال ، عفواً .. إنّه استثمار بــ (رأ س) ، لكن بلا مال ، وربحه مضمون تماما وهامش الخسارة معدوم (على الأقلّ .. راس بـ راس ) .
المشكلة أنّ (المحصول) لم يكن مطلوباً عندما كنت أنتج منه الكثير، لكنه الآن مطلوب بشدّة ، بعد أن فقدته تماماً وأقفلت المصنع بمحض اختياري ، وقد أفسدتني النعمة ، ولم أعد قادراً على افتتاحه مرة أخرى .
هذا الاستثمار .. هذا المصنع الذي لا يحتاج إلى رأسمال – عفوا , لا يحتاج إلى مال – كان يملكه الملايين منا ، أقصد أنّ لكلّ واحد مصنعا .. مصنع لكلّ مواطن.
نعم مصنع لكلّ مواطن ، يعني أنّ كلّ مواطن كان يمتلك مصنعاً ، بلا توريات ولا ألاعيب لغوية.. لا بيان ولا بديع .. لا تردّين الرسايل .. ويش أسوّي بالورق!
لا تذهبوا بعيداً في الاستنتاجات ، أقصد أنّ الكثيرين منا كانوا يملكون مصانع ومحميّات لإنتاج القمل – القمل ما غيره – في رؤوسهم .. وكنت أنا أحد أولئك المهابيل الذين أغلقوا مصانعهم قبل تسويق الإنتاج .. يا للغباء !!
لم أكن أمتلك مجرّد رأس وسخ فحسب ، بل بابَ رزق معلّق فوق أكتافي .
المشكلة أنني لم أعرف قيمة رأسي هذا إلاّ حينما قرأت في مواقع الإنترنت أنّ منتديات نسوية عربية تبيع هذه الأيام القمل ( قمل الرأس ما غيره ) إلى نساء ثريّات ومنغنغات ، بواقع (50) ريالاً لحفنة صغيرة قد تضمّ دزينة من القمل كامل الدسم .
البيع يتمّ وسط حملات إعلانيّة مكثفة تتحدّث عن فوائد هذا القمل ، ومنها أنّه يقوم بحماية الرأس من الجلطات ، وتكثيف الشعر ، على اعتبار أنّ القمل ، وهو يتحرّك على سطح الجمجمة ، يقوم بعملية تدليك لفروة الرأس .
وتزعم تلك النسوة اللاتي ظهرن في تلك المواقع والمنتديات بصفتهن مسوّقات للطبّ الشعبي أنّ القمل يقوم أيضاً بامتصاص الدم الفاسد ليتغذى عليه ، و بذلك تتجدّد الدورة الدموية ولا تحدث جلطات في الرأس ، كما زعم البعض قدرته ( أيْ القمل ) على تكثيف الشعر ، لأنه يسبّب (الحك ) المستمرّ ويعمل مساجاً دائماً لفروة الرأس ، وينشّط نموّ الشعر.
في السابق كانت كثرة القمل في رؤوسنا ونحن تلاميذ ، تشير إلى شدّة الفقر ، بينما حالياً فإنّ سيدة المجتمع التي ترعى في رأسها كميّة أكبر من القمل تكون في الواقع هي الأكثر ثراء ، والأكثر عناية بجسدها .. وأتخيّل خطيبها أو زوجها أو حبيبها وهو ينظر إليها بــ ( وله ) ، بينما ينساب القمل على خدّيها وتحت شحمتي أذنيها ، فيمسك القملة بحنوّ ويعيدها إلى فروة رأسها بكلّ تؤدّة فتشكره بابتسامة ساحرة .. وتحكّ رأسها ، فيتساقط القمل على الطاولة ، فينهمكان في جمعه وإعادته إلى رأسها بكلّ عشق وانفعال .. إنها رومانسية القرن الجديد .
أمّا أنا ، ففي نيّتي رفع دعوى قضائية على جميع شركات الصابون والشامبوهات ومنظفات الجسم ، مطالبا بالتعويض المادّي والمعنوي ، لأن استخدامي غير المفرط لمنتجاتها أدّى إلى فقداني مصنعي القملي ورأس مالي الكبير ، الذي كان من الممكن أن يوصلني ، لو كان ما يزال منتجا ، إلى مصافّ الأثرياء .
من كتابي(هكذا تكلم هردبشت)الصادر عام2011

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى