حفيف الصفصاف / خيري منصور

حفيف الصفصاف

في إحدى قصائده بعنوان «أغنية لباب توما» تمنى الشاعر محمد الماغوط لو أنه شجرة صفصاف قرب كنيسة أو حانة من الخشب، يرتادها المطر والغرباء، ولم يكن الماغوط أول شاعر تمنى استبدال آدميته بمخلوقات أو عناصر من الطبيعة، وسبقه إلى هذا التمني تميم بن مقبل الذي تمنى لو أنه حجر.
وهناك من غير الشعراء أيضا من تمنوا الخلاص من سطوة الأنسنة والوعي كألبير كامو الذي قال لو أنه قطة أو شجرة لكان جزءا من عالم يحتج عليه بحيث يموت عندما يموت فقط، ولا يموت مرارا من خلال خياله. وبالمقابل هناك شعراء حاولوا أنسنة الجماد كالشاعر جيفيللك الذي اهتم بالاشياء وأوشك أن يكون شاعرها بامتياز، وكذلك الشاعر أدونيس الذي جعل للصخر أردافا وللتراب جدائل، وهناك مقولة لعبد الله بن محمد قد تختصر الغاية من حنين الآدمي إلى التشيؤ يقول فيها، إنه تمنى لو أنه شجرة تعضد، كي لا يرى ما يرى ولا يسمع ما يسمع، وهذا ايضا ما كرره على نحو آخر المؤرخ ابن الاثير الذي تمنى لو أنه لم يولد إنسانا كي يشاهد الكوارث التي حدثت في زمنه.
وإذا كان الماغوط قد اختار الصفصاف من كل سلالات الشجر فذلك لأن هذه الشجرة اقترن اسمها بالحزن، ولها ظلال رومانسية وبالتالي فإن حفيفها الأخضر يرشح منه لون بنفسجي، وكما أن للبشر انفاسهم وإيقاعاتهم فإن لكل شجرة حفيفها، وما من حفيف للغابة كلها، هذا على الرغم من أن هناك أشجارا لا تستجيب للريح وليس لها حفيف إلا إذا كانت الريح إعصارا كالصبير في الواحة اللزجة الثقيلة وما يكسوها من أشواك، وقد فوجئت مؤخرا بما لم أكن أعرفه عن الصبير، فهو صحراوي يعاني شأن كل الكائنات الصحراوية من شحة الماء، لهذا فهو يختزنه في جذعه العريض، أما الاشواك فهي للدفاع عن هذا المخزون من الماء الذي إذا نضب تتوقف الحياة.
لكن لماذا يضيق الإنسان أحيانا بآدميته ويرغب في استبدالها بما هو غير آدمي؟ وهل سبب ذلك فائض الوعي الذي لا يحتمل، وسؤال العدم والعبث الذي جسدته أسطورة سيزيف بحمل الصخرة صعودا وهبوطا إلى ما لا نهاية وبلا أي هدف؟ والأرجح أن الشعراء والمبدعين الذين بحثوا عن وسائل لتدمير الوعي واستمراء الغيبوبة، سواء بالمخدرات أو تشويش الحواس، كان هدفهم هو الهروب من سؤال الكينونة وعدم الاهتداء إلى هدف من وجودهم في هذا العالم الذي رأوه مجرد سديم أو فراغ سحيق بلا نهاية.
وأعود إلى أمنية الماغوط بأن يصبح صفصافة، لأتساءل هل خطر بباله أن هذه الشجرة التي اقترن اسمها بالشّجن كانت ستنوب عنه في حفيف يرشح منه الحزن؟ أم أنه تصور في لحظة ما أن ينابيع الشعر تشمل حتى الشجر والحجر بما يتدفق منها؟ وإن الشعر ليس حكرا على البشر أو اللغات، أذكر أنه أجاب ذات يوم عن سؤال حول اختياره لقصيدة النثر شكلا للتعبير عن ذاته، فأجاب أنه وجد نفسه غريقا في البحر وكانت تطفو بجواره خشبة تشبث بها كي ينجو ويصل إلى الشاطئ ولم يكن لديه من فائض الوقت ما يدفعه إلى أن يتساءل عن هوية تلك الخشبة، وهل هي من زيتونة أو سنديانة، وكان بتلك الإجابة يدافع عن شعرية أصيلة لا تنمو في الأصص على شرفات المنازل، وليست كنبات الزينة المحروم من ضوء الشمس، وذكرني على الفور بما قاله الشاعر الجزائري مالك حداد حين سئل عن دراسته الأكاديمية حول الأدب والشعر، وهو إسألوا العصافير عن معاهد الموسيقى التي تخرجت منها، وابحثوا تحت أجنحتها عن النوتات التي تعزفها.
إن للبشر حفيفا كما هو للشجر، لكنه غير مسموع أو مرئي، بل هو أشبه بالرائحة التي تفضح مصدرها، وتفاوت حفيف الشعراء بين الصفصاف والصبّير والسنديان والنخيل، وهذا هو الإيقاع السري الذي لم تدجنه بحور الخليل بن أحمد ولن تدجنه مطارحات علم الجمال والنقد حتى آخر زفير شعري على هذه الأرض. وقد تنبه نقاد العرب الأوائل إلى الفارق الجوهري والحاسم بين الشعر والنظم، لهذا لم يدرجوا ألفية بن مالك ومعلقة لبيد بن ربيعة في خانة واحدة، وفاضلوا أيضا بين قصيدة ندية وافرة الماء وقصيدة حجرية مسننة الأطراف وتجرح الأصابع التي تحاول لمسها، لهذا أضاف أحدهم إلى جناحي الشعر وهما الوزن والقافية نية الشعر، وهي التعبير المجازي عن هاجس الإبداع بمعزل عن الذاكرة، وأوصى الشعراء بأن يحفظوا كثيرا من الشعر من أجل نسيانه، وسيبقى تعريف الشعر منذ هوراس وامرئ القيس حتى ت. س. أليوت وييتس وهاوسمان محاولات محكومة بالفشل، لأنه ينشأ أثناء كتابته وليس قبلها، وهذا ما دفع سارتر إلى استثناء الشعراء من نظريته حول الالتزام في الأدب، مثلما استثنى ماركس الإغريق القدماء من نظريته التاريخية لأنهم يشكلون بكارة الإنسانية وكان يعيد قراءة أسخيلوس ويوريبيدس مُتناسيا أن أثينا كان سدس سكانها من العبيد.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى