حتى في غيابك!

مقال الثلاثاء 21-3-2017
حتى في غيابك!
ما زلتِ كما أنتِ تدركين وجعي الصامت، تعرفين مفاصل حزني .. تنظرين في عينيّ التائهتين طويلاً فأشفى منّي واهتدي الى سبيلي..حتى في غيابكِ لم تتركيني لحظة واحدة..كلما ضاقت بي الدنيا ونزفتُ قلقاً على الوسادة ،تدلّيت من بين عناقيد الحلم قطفاً من نور..تمسحين على شعري ،تجلسين على كرسيكِ أمامي وتؤنسيني بوجودك حتى تهدأ روحي المضطربة..
أتعبتك في حياتك وفي رحيلك يا غالية فسامحيني..سامحيني لم أكن أعي قيمة صوت أقدامك البطيء على درجات غرفتي أثناء ” التوجيهي” الا عندما عزّ الزائرون في غيابك..لم أكن أعي ماذا يعني أن تــُقرّبي عود الثقاب من عينيك الغائمتين لتريه ،فتشعلين النار تحت إبريق الشاي وتحضريه لي في مساءات الشتاء الطويلة الا عندما تجرّعت الوحدة الباردة!!…سامحيني لم أكن أعي ما معنى أن تصمتي وأنتِ تشاركيني السماع لإذاعة الشرق قبيل امتحان الانجليزي بليلة..كان صمتك يتمنى أن أغلق الراديو وأركّز في كتابي جيّداً..لكنك خجلت أن تقوليها وأنا لم التقطها في حينها..
**
قلت لكِ في مقالٍ سابق ..أنتِ لم ترحلي لكنّك غيّرت مكان الإقامة فقط ، ما زالت غرفتك العسلية عامرة بأنفاسك ..نتحلّق كل مساء حول مكانك الفارغ ، نسهر نتكلم ،نصمت..لكننا لا نجرؤ على نسيانكِ..ما زال كل شيء يحترم اختيارك ويرفض غيابك..الروزنامة في مكانها ،نجددها كل عام ونحتفظ بــ”الجلدة”القديمة ، سخّانة قهوتك، فناجينك الثلاثة ، حرامك البٌنّي ما زال الحِرام الوحيد الذي يداري غفوتي المسائية أو يدفئني إذا ما تسللت إلىّ قشعريرة آذار ..صور الأحفاد المعلّقة على الخزانة وقرب الستارة ما زالت تبتسم لمكانك ..ولأنها من اختيارك؛ أحفاد البرواز لم يكبروا بعد..كرسيّك الأبيض ما زال شاغراً كعروش الملوك لا يعتليه أحد ..إصدارات كتبي التي كنت أهديكِ إياها ما زالت في “الساطرة” قرب مطحنة القهوة و”البنوّرة” وساعتك المتوقفة عند العاشرة..
ما زال رقم ملفّكِ الطبي مخزّن على هاتفي، وما زلت أحتفظ بأرقام أطبائك المختصين أتصل بهم كل عيد فيذكروني ويذكرونك يا أمي، وما زال اسمك برغم كثرة الأسماء على رأس القائمة “أأأمي” كتبته بهذه الطريقة كي لا يسبقك بالترتيب أحد وكي لا تضيعي في زحمة الأسماء ،صحيح أن هاتفك “لا يمكن الاتصال به”..لكنك تتصلين بي كل ليلة وكل حلم ودون انقطاع او تشويش ..
**
ما زال كيس الدواء في نفس الزاوية ، وما زلت أحفظ أسماء أدويتك عن ظهر قلب وتدرّج الجرعات..أنت لم تغيبي لحظة عنا صدقيني ..أنت تقضين مناوبتك في الرحيل فقط..
سامحيني يمّه ، أن اختلف شكل الهدية ،أو قطعت أغاني الأم في الراديو وغيّرت الموجة ، أو حاولت الالتهاء بأي شيء عند سماع “إعلانات ست الحبايب” فلن استطيع أن أهديك ما يقترحون ..ولن تستطيع أن تلامس شفتاي جلد يديك الرقيق…سامحيني ان شغلت نفسي هذا المساء بأي شيء..فوقت “اللمّة ” الليلية وتقديم الهدايا والتناوب في الجلوس على سريرك ورفع اليدين في الأدعية..كل هذا يرميني على حافة الحزن فسامحيني!…
هذا المساء وحسب توقيتي اليومي في زيارتك..سأطبع قبلة على رخام الضريح وأقول ..كل عام وأنتِ بألف ألف خير!..عندما تبقى أشياؤك أجراس ذكرى لنا..فأنت بخير..عندما لا تغيبين لحظة عنّا وعن الأولاد فأنت حتماً بخير..عندما تتوهّج غرفتك قنديلاً في عتمتنا فأنت بألف ألف خير..عندما أمسح العشب الطري عن جبهة قبرك فأنت بخير..عندما تفتحين باب الحلم كل ليلة وتضيئين زوايا الغياب فأنت بخير..عندما أزرع “زنبقة” في مفرق القبر وأرويها ماء وأدعية كل مساء حتى تتفتح أكفها كأكفّك فأنا بخير..
ظلّي قربي..حتى في غيابك ..فأنا نقطة من”حِبرك” انا زفرة من صبرك..أنا فاصلة في هامش الأيام ..وأنت “ترويسة” العمر!

احمد حسن الزعبي
ahmedalzoubi@hotmail.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫15 تعليقات

  1. اسال الله العلي رب العرش العظيم ان يرحمها برحمته ويرحم والدتي وموتى المسلمين اجمعين
    ويجعل الجنة مثوى لها ومن خلف امثالك لن يموت انما هي فقط غيرت مكان الإقامة

  2. قلمك الندي لا زال يستمد حبره من ذكرى الوالده رحمها الله وغفر لها ورزقك الصبر وا أجر

  3. الأم هي رمز للعطاء والتضحيه بلا حدود , وهي مصنع الرجال والجندي المجهول ……

    جاء رجل إلى رسول الله صل الله عليه وسلم فقال:
    إني أشتهي الجهاد، ولا أقدر عليه.
    فقال :
    (هل بقي من والديك أحد ؟.
    قال:
    أمي.
    قال:
    (فاسأل الله في برها، فإذا فعلتَ ذلك فأنت حاجٌّ ومعتمر ومجاهد .. )

    الله يرحم والدتك ويغفرلها ويرجم امواتنا واموات المسلمين ………..!

  4. كل عام وانت بالف الف رحمة ،ربما تغيب الاجساد ربما ،لكن الروح لا تغيب .
    ايها الزعيم في هذا الفجر المبارك نسال الله ان ينزل رحماته على امهاتنا الطيبات الخالدات ونرجو فضله ان يجمعنا بهن في اعالي جنته ،انه ولي ذلك والقادر عليه.

  5. يا أستاذ احمد الزعبي …مقالك ينبض بالوفاء والبر لوالدتك رحمها الله.لقد ابكانا والله وفاؤك العظيم تتمناه كل الامهات .رحم الله هذه النخله التي تمتلك الحكمه والمحبه ورحم رب العالمين جميع الامهات اللواتي هن اغلى ما في حياتنا.

  6. تبكينا في يوم الام دائما …يوم امس شاركت على صفحتي لقاء تلفزيونيا معك و بكيت انت و بكيت انا… اروع ما كتب عن الام هو انت استاذي…دمت بخير و لها الرحمة.

  7. إلى كل أم أصيلة بأخلاقها طوتها الأيام واحتوتها رحمة رب العالمين …..

    ما زلتِ في حناياي ترفلين ، تنثرين من على أطراف ثوبك الزهر والعطر ، تسافرين في أنحاء روحي ، تذهبين ثم تعودين ، بجرح تخطرين ، وفيض من الشوق ونهر من حنين ….يا امرأة خرافية …يا امرأة من الياسمين !!
    ما زلتِ هناك ، وما زلت هنا . نصفي هنا ، ونصفي هناك ، لم تمت ذكراك ، فليس من السهل أن تموتي ، تموت الساعات نعم ،وتنقضي ….تذوب الثواني وتنتحر الدقائق ، غير عصرك وغير زمانك …زمان آخر وعصر فريد ،فيه النساء أعمدة للبيت ، وأصل مكون للحياة ،ومادة مكونة للجمال ،فكيف تموتين وأنت كل هذه المعاني ، وقد ضربت جذورك في أعماق بيتنا ، وامتدت عروقك على الجدران واتسعت على الشرفات ، ثم انهدلت على النوافذ ، أحاطت واستدارت ، بكل سحرها وعنفوانها ،ياسمينه ملئى بالزهر الأبيض الغض الجميل ….
    على فيئك نصحو ،وعلى عبق زهرك ننام ،ونحلم فتتلون أحلامنا بلونك ، وأراك وأنت تتناولين بقايا طفولتي ،وشتات أفكاري، وتلملمين نثار قلب منكسر ، تعيدين صياغتها، ثم تقرأين عليها من نور الإله ما تيسر ، وترسلينها إلى الأفق قائلة: قومي بنيتي ، وكفكفي دمعا ووفري قلقا …قد تحتاحينه ، فالعمر طويل ، وأبناؤك ينتظرون يا نهر العطاء …
    وأصحو وقد امتد شعاع من نور ، آت من عوالم مدهشة ، لا أراها ولكن أحسها تملؤ روحي ، وأتيقن أنني بحمد الله منحت ما لم يمنحه كثيرون ،إنه البوح حين تتملكهم العجمة ، وتخونهم القرائح …
    إنه الحلم الجميل ، حين يستحيل الواقع وتتبلد الموجودات ، وتصبح الأماني مستحيلات..
    أنها عوالمك الساحرة التي فيها تسكنين …أمي وسر وجودي ….
    ليت كل البشر يشعرون بما تحس به روحي التواقة ، الغارقة في العشق ، معشوقتها امرأة …كل م ا ف ي ها …من الياسمين .

    رحم الله امهاتنا وجمعنا فيهن.على خير عند رب كريم .

  8. آآخ يا إحمد الحسن؛؛ كنت كل سنة أقرأ مقالك وأتعاطف معك ومع كل من غابت أمه؛؛ إلا هذا العام فقد رحلت أمي وانضممت لناديك الحزين؛؛
    الله يرحم أمك وأمي وأمهات الجميع
    الغياب غياب والفقد مؤلم مهما لوينا أعناق النصوص وزينا الكلمات يا قرابة فنحن في النهاية بشر
    الله المستعان

  9. الله عليك يا زعبي تأبى الا ان تكون مبدعا رحم الله والدتك و والدك و جميع موتى المسلمين

  10. أحسنت استاذ احمد …. كل عام وامي وكل ام بخير .. ورحم الله أمهات المؤمنين

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى