جميل علوش: شاعر الزمن الجميل

هزاع البراري – لم يكن جميل علوش مجرد لغوي متمكن من قواعد اللغة، ومحلق في فضاءاتها وحسب، ولم يكن شاعراً مبدعاً أصيل الموهبة، جيد السبك وحسب، بل كان ظاهرة أدبية لافتة، حظيت بالتقدير والاحترام على امتداد رقعة الوطن العربي الكبير، واستطاع أن يترك أثره العميق في أجيال من الأكاديميين والشعراء ومحبي اللغة العربية، كيف لا وهو العاشق المخلص للغته وثقافته العربية بعيدة الجذور، والمتتلمذ على كبار اللغويين من قرب أو من بعد، من أمثال اليازجي والبستاني، وطه حسين وأحمد شوقي وحافظ ومطران وأبي العلاء المعري، وبدوي الجبل وعمر أبو ريشة، وغيرهم من أعلام الصرف والنحو والبلاغة، حتى أصبح مع الأيام وبفضل اجتهاده، علماً كبيراً ومبدعاً طوع اللغة في قوالب شعرية جيدة السبك، وعميقة المعاني وبعيدة المرامي، فكان الدكتور جميل علوش ملء السمع والبصر.
الشاعر والأكاديمي جميل إبراهيم علوش، من مواليد بلدة ( بيرزيت ) الفلسطينية، وهي بلدة ناشطة تقع على بعد خمسة وعشرين كيلو متراً إلى الشمال من مدينة القدس، وتعد من ضواحي مدينة رام الله، وهي بلدة وارفة كثيرة الأشجار، وتعد موطناً طبيعياً لشجرة الزيتون، وكانت ولادته في عام 1937، حيث كانت فلسطين تتعرض لأشرس مؤامرة دولية في العصر الحديث، وقد نشأ جميل علوش في بيرزيت، وزرع سنوات من طفولته الحالمة بين بيوتها وبساتينها، ولاشك أنه كان لهذه البيئة الخصبة، دور كبير في تفجر موهبته الشعرية، التي أخذت مداها الواسع في ما بعد، وتلقى جميل علوش دراسته الأولى في بيرزيت، والتي جعلته مسكوناً بالأرض والقضية الفلسطينية طوال حياته، وقد تسرب هذا الالتزام إلى أدبه ومشاركاته العلمية والأدبية في المؤتمرات المختلفة.
كان لنكبة فلسطين وضياع الجزء الأكبر منها، أن ترك أثره العميق في نفسه، وبقي هذا الجرح يتعمق، ولم يغادره الألم في مرحلة من المراحل، فبعد أن أنهى دراسته الثانوية، انطلق للحياة العملية بشكل مبكر نسبياً، نظراً لظروفه وظروف المنطقة، فأنتقل إلى الكويت، حيث عمل موظفاً في وزارة المالية والنفط الكويتية، وكانت الكويت تشهد نهضة متسارعة في مختلف المجالات، نظراً للاكتشافات النفطية الكبيرة فيها، ورغم عمله الناجح، إلا أن حلمه لم يتوقف عند هذا الحد، فلقد دفعه حبه للعلم، وعشقه للغة العربية، والطاقة الشعرية الكبيرة التي يتمتع بها، كل هذه العوامل دفعته لإكمال دراسته الجامعية، فالتحق بجامعة دمشق، وبدأ الدراسة الجامعية في كلية الآداب، وهنا وثق جميل علوش علاقته الأصيلة باللغة العربية وعلومها، وبدأ مشواره الأكاديمي في بحر اللغة العميق.
تخرج جميل علوش في جامعة دمشق عام 1967، حاصلاً على شهادة الليسانس في اللغة العربية وآدابها، وبعد منجزه هذا، قرر مواصلة مشواره في تلقي العلم وإكمال دراسته العليا، فالتحق بجامعة القديس يوسف في بيروت بلبنان، منتسباً إلى معهد الآداب الشرقية في الجامعة، حيث درس الماجستير في اللغة العربية، وتمكن من نيل هذه الدرجة العلمية عام 1972، وقد توضح لديه في هذه المرحلة، أن المسار الأكاديمي جزء أساسي من مشروعه الثقافي والإبداعي، لذا عمل على الاستمرار في الدراسة العليا دون انقطاع، فالتحق ببرنامج الدكتوراه في المعهد ذاته، ورغم الأعباء الوظيفية والمعيشية، حقق غايته المنشودة، ونال درجة الدكتوراه في اللغة العربية وآدابها، من جامعة القديس يوسف عام 1977.
عاد الدكتور والشاعر جميل علوش إلى الأردن، وبدأ العمل في التدريس منذ عام 1975، حيث عمل مدرساً للغة العربية في المدرسة الأهلية للبنات لمدة عام واحد، ثم انتقل للعمل مدرساً في الكلية العربية خلال الفترة ما بين عام 1976 وعام 1979، وقد اختار التدريس والشعر والكتابة نهجه في الحياة، فقد أصبح مدرساً في كلية مجتمع السلط حتى العام 1982، بعدها عمل مدرساً في كلية عمان الجامعية للهندسة التطبيقية، وكانت هذه الفترة بالنسبة له غنية بالخبرات، متنوعة في أماكن العمل، مما ساعده على الانتشار السريع، وأصبح له جمهور واسع لدى الشباب والكبار على حد سواء، واستطاع خلال فترة وجيزة، أن يكون أحد الرموز الثقافية المميزة، التي قدمت للساحتين المحلية والعربية، الكثير من أمهات الكتب، والدواوين الشعرية، وأجيال من الخرجين المسلحين بحب اللغة العربية متقنين لمهاراتها.
كان جميل علوش أستاذاً جوالاً، فلم يبخل بعلمه على مؤسسة أكاديمية أو ضن به على طالب مجد، فبالإضافة لعمله في كلية عمان للهندسة التطبيقية، عملاً مدرساً كعمل إضافي في عدد من الكليات منها: كلية الملكة علياء، كلية حطين، معهد الملكة نور، ونظراً للمكانة العلمية الكبيرة التي تمتع بها، فقد بقي على صلة أكاديمية مع جامعة القديس يوسف، حيث أشرف من خلالها على عدد كبير من أطروحات الماجستير والدكتوراه، حيث عرف بدقته وتحريه للمنهج العلمي، وحرصه على إكساب الطلبة المهارات والخبرات اللازمة، التي تمكنهم من التميز والقيام بأعباء الرسالة العلمية بأمانة، وفي السياق نفسه، وظف جل وقته في الكتابة والبحث والتأليف، فقدم للمكتب العربية عدداً كبير من الكتب والدراسات والتراجم، التي أعتمد عدد منها لدى كثر من الجامعات، وكانت مؤلفات أصيلة، وكتب متنوعة الثراء.
تميز الشاعر والدكتور جميل علوش، بمكانته الإبداعية كشاعر كبير لا يشق له غبار، فقد أخلص لشكل القصيدة العربية الكلاسيكية، لكنه جدد فيها وطور، ولم يقع في الجمود، فكان تجديده داخل الشكل لا خارجه، مع ذلك فقد تقبل باحترام كل التجارب الشعرية العربية الحديثة، رغم إخلاصه للقصيدة الكلاسيكية، وكان شاعراً ناشطاً في كتابة الشعر ونشره، وفي المشاركة في الأمسيات والندوات والمؤتمرات، دخل الأردن وخارجه، منها مهرجان الكتاب الدولي الرابع 1991، ومهرجان الثقافة والتراث المنعقد في الرياض عام 1992، ومهرجان المربد في بغداد 1988، بالإضافة لمؤتمر تكريم أبي سلمى 1978، ومؤتمر اتحاد الكتاب الفلسطيني الأدبي في بيروت 1972.
انتسب الشاعر والأكاديمي جميل علوش، خلال حياته الحافلة بالتنوع والنجاح، إلى عدد من الهيئات الثقافية المحلية والعربية، وهي هيئات ذات شأن كبير في مجال الثقافة والإبداع، فخلال عمله في دولة الكويت، انظم إلى رابطة الأدباء في الكويت، كما كان عضواً في اتحاد الكتاب الفلسطينيين في الكويت أيضاً، ونال عضوية النادي العربي في عمان، وأصبح عضواً في رابطة الكتاب الأردنيين، وهي الهيئة الثقافية الأبرز في الأردن، بالإضافة لعضويته في الإتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، وقد نشر نتاجه الأدبي في صحف ومجلات أردنية وعربية شهيرة، كما قام بنشر عدد كبير من الكتب الأدبية والنقدية منها: من شعراء العصر، ابن الأنباري، عمر أبو ريشة، الإعراب والبناء، دروس في علوم اللغة، التجديد والحداثة بمعيار بياني، من ملامح القصيدة العربية، جميل علوش سيرة وذكريات، وغيرها من الكتب القيمة.
في مجال كتابة الشعر أصدر عدداً وافراً من الدواوين الشعرية منها: عرس الصحراء، خوابي الحزن، أشواق، جرح ودماء، مواكب الربيع، صوت الشعر، أناشيد، حديث الذكريات، نفحات شعرية، أنغام وأنسام، وغيرها، وكان صاحب موقف عروبي قومي، منحازاً لقضايا الأمة، ولم يكن يوماً مهادناً أو مداهناً، لم يكن مغالياً في موقفه وأصاحب مواقف استعراضية، بل مال إلى العقلانية والاعتدال. وقد أصيب الشاعر الدكتور جميل علوش بجلطة دماغية أدت إلى وفاته، عن عمر ناهز الثلاثة والسبعين عاماً في الخامس والعشرين من شهر تموز عام 2010، تاركاً إرثاً كبيراً يبقى يذكر به مدى الأيام.

أ.ر

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى