جدّ هردبشت الأوّل / يوسف غيشان

جدّ هردبشت الأوّل
قد لا يكون كائنا من لحم ودم ، وقد يكون عدة كائنات كانت موجودة في أكثر من زمان وأكثر من مكان ، وقد يكون مادة مكثفة صنعتها الشعوب من وهج الأساطير ورماد المعاناة وجمر الثورة .
لذلك جاء جدّي جحا كائنا غريبا ، متعدّد الانتماءات ويعيش حيوات متجدّدة ، من صهيل الصحراء حتى عصرالكهرباء ، وهو أيضا خليط عجيب غريب من الذكاء والحمق ، من الجهل والعلم ، من الشجاعة والجبن ، من الفارس والبهلول .
في الواقع لا أعرف الاسم الحقيقي لجدّي جحا الذي ما يزال حيّاً وسيبقى بعدي وبعد أحفاد أحفادي ، فقد ورد ذكره أولا في شعرعمر بن أبي ربيعة عام ( 93هجري) ، وعاش عصر أبي مسلم الخرساني والخليفة المنصور ، وتوفي على ذمّة المصادر التاريخية ، في العام 160 للهجرة بعد أن عمّر طويلا ، وهو حسب ذات المصادر ، عربي اللون واللسان ويُدعى ، حسب المصادر ذاتها ، دجين أبوالغصن بن ثابت اليربوعي البصري ، المعروف بجحا .
أما الأتراك فــ ( جُحاهم ) يُدعى (الخوجة نصر الدين ) وقد ظهر في أحوج وقت إليه .. تماما خلال الاجتياح المغولي الثاني لبلاد المسلمين ، تحديدا ، في فترة تيمورلنك المحتلّ القاسي المتكبّر الذي كان يسخر منه جحا ويذكره بالعدل ويشفي غليل الشعب من الحاكم الظالم .
علينا أن نعترف بأنّ جحا الأتراك هو الأكثر شهرة ، نظراً للظروف التي أشرنا إليها ، إضافة إلى أن جحا العربي كان يسخر من الخليفة المنصور المشهور بالبخل ، لذلك تم طمر معظم هذه الحكايات خلال العصرين العباسي الأول والثاني إلى أن اختفت تحت رماد السنين.
ومن حكايات جحا التركي المشهورة ، قصته مع تيمورلنك ، الذي سأله يوماً قائلا :
– ترى كم أساوي بنظرك من المال يا حجا ؟
فنظر إليه جحا متأملاً أعلاه وأسفله ، ثم قال بغير تردد :
– لا أظنك تساوي أقلّ من ألف دينار أيّها الملك العظيم.
فقال تيمورلنك غاضباً :
– إنّ ملابسي وحدها تساوي ألف دينار !!
فقال جحا :
– إذن فقد صدق تقديري تماما .
المقصود هنا ، طبعا ، أنّ تيمورلنك لا يساوي أكثر من ثمن ملابسه.
قد تقولون : من المستحيل أن يستطيع جدّي جحا التحدث بهذه الطريقة أمام تيمورلنك السفّاح .. فليكن .. ألم تستمتع الشعوب ، وما تزال ، بهذه الحكاية ، حتى لو كانت مجرد اختراع شعبي على لسان جدي العظيم ؟؟
للفرس جُحاهم أيضا ، وهو عندهم فارسيّ الأصل والفصل واسمه (جوجي) من أهل أصفهان ، واسمه الحقيقي – على ذمتهم – هو الملا ناصر الدين.
00 وجدي حجا في مالطا اسمه جاهان !
00 وفي صقليّه اسمه جويكا !!
كما عرفته أقوام كثيرة ، وهناك ترجمات لنوادره عند الرومانيين والبلغار واليونان والألبان واليوغسلاف والأرمن والقوقاز والروس والأوكرانيين والصينيين ، إضافة إلى انتشار نوادره في معظم أنحاء افريقيا .
جدّي لم يمت ، لأنه يعيش في أفئدة الشعوب ، فهو روح المقاومة التي تحمل شعلة الأمل حتى لا تنطفئ في الزمن الصعب ، وهو مانعة الصواعق التي تنقذ الشعوب من اليأس والإحباط والجنون .
جدّي جحا .. جد الساخرين جميعاً في كل زمان ومكان .. سلام عليك إنْ كنت حيّاً بقبر أو حياً بقلب .. سلام عليك !!
من كتابي(هكذا تكلم هردبشت)الصادر عام2011

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى