جدّ هردبشت الأوّل
قد لا يكون كائنا من لحم ودم ، وقد يكون عدة كائنات كانت موجودة في أكثر من زمان وأكثر من مكان ، وقد يكون مادة مكثفة صنعتها الشعوب من وهج الأساطير ورماد المعاناة وجمر الثورة .
لذلك جاء جدّي جحا كائنا غريبا ، متعدّد الانتماءات ويعيش حيوات متجدّدة ، من صهيل الصحراء حتى عصرالكهرباء ، وهو أيضا خليط عجيب غريب من الذكاء والحمق ، من الجهل والعلم ، من الشجاعة والجبن ، من الفارس والبهلول .
في الواقع لا أعرف الاسم الحقيقي لجدّي جحا الذي ما يزال حيّاً وسيبقى بعدي وبعد أحفاد أحفادي ، فقد ورد ذكره أولا في شعرعمر بن أبي ربيعة عام ( 93هجري) ، وعاش عصر أبي مسلم الخرساني والخليفة المنصور ، وتوفي على ذمّة المصادر التاريخية ، في العام 160 للهجرة بعد أن عمّر طويلا ، وهو حسب ذات المصادر ، عربي اللون واللسان ويُدعى ، حسب المصادر ذاتها ، دجين أبوالغصن بن ثابت اليربوعي البصري ، المعروف بجحا .
أما الأتراك فــ ( جُحاهم ) يُدعى (الخوجة نصر الدين ) وقد ظهر في أحوج وقت إليه .. تماما خلال الاجتياح المغولي الثاني لبلاد المسلمين ، تحديدا ، في فترة تيمورلنك المحتلّ القاسي المتكبّر الذي كان يسخر منه جحا ويذكره بالعدل ويشفي غليل الشعب من الحاكم الظالم .
علينا أن نعترف بأنّ جحا الأتراك هو الأكثر شهرة ، نظراً للظروف التي أشرنا إليها ، إضافة إلى أن جحا العربي كان يسخر من الخليفة المنصور المشهور بالبخل ، لذلك تم طمر معظم هذه الحكايات خلال العصرين العباسي الأول والثاني إلى أن اختفت تحت رماد السنين.
ومن حكايات جحا التركي المشهورة ، قصته مع تيمورلنك ، الذي سأله يوماً قائلا :
– ترى كم أساوي بنظرك من المال يا حجا ؟
فنظر إليه جحا متأملاً أعلاه وأسفله ، ثم قال بغير تردد :
– لا أظنك تساوي أقلّ من ألف دينار أيّها الملك العظيم.
فقال تيمورلنك غاضباً :
– إنّ ملابسي وحدها تساوي ألف دينار !!
فقال جحا :
– إذن فقد صدق تقديري تماما .
المقصود هنا ، طبعا ، أنّ تيمورلنك لا يساوي أكثر من ثمن ملابسه.
قد تقولون : من المستحيل أن يستطيع جدّي جحا التحدث بهذه الطريقة أمام تيمورلنك السفّاح .. فليكن .. ألم تستمتع الشعوب ، وما تزال ، بهذه الحكاية ، حتى لو كانت مجرد اختراع شعبي على لسان جدي العظيم ؟؟
للفرس جُحاهم أيضا ، وهو عندهم فارسيّ الأصل والفصل واسمه (جوجي) من أهل أصفهان ، واسمه الحقيقي – على ذمتهم – هو الملا ناصر الدين.
00 وجدي حجا في مالطا اسمه جاهان !
00 وفي صقليّه اسمه جويكا !!
كما عرفته أقوام كثيرة ، وهناك ترجمات لنوادره عند الرومانيين والبلغار واليونان والألبان واليوغسلاف والأرمن والقوقاز والروس والأوكرانيين والصينيين ، إضافة إلى انتشار نوادره في معظم أنحاء افريقيا .
جدّي لم يمت ، لأنه يعيش في أفئدة الشعوب ، فهو روح المقاومة التي تحمل شعلة الأمل حتى لا تنطفئ في الزمن الصعب ، وهو مانعة الصواعق التي تنقذ الشعوب من اليأس والإحباط والجنون .
جدّي جحا .. جد الساخرين جميعاً في كل زمان ومكان .. سلام عليك إنْ كنت حيّاً بقبر أو حياً بقلب .. سلام عليك !!
من كتابي(هكذا تكلم هردبشت)الصادر عام2011