خفية ترتقب /هبة كبها

خفية ترتقب
هبة كبها

*************************************
يأخذها الحنين إلى مساربه الضيقة، ويدفعها إلى قارعة الطريق، فترقب المارة عن قرب، وكأن الملامح تتشابه بينهم، لا تدري لماذا تلحظه في كل الوجوه العابرة، لماذا تتذكر له كل شيء، حتى نبضاته تسمعها من بعيد وكأنه لا تلفظ إلا اسمها، ولا تنبض إلا لأجلها، كيف لا ..؟! وهو من منحها صلاحيات ملكة في مملكته الخاصة بها .

كيف تنسى التفاصيل وهي طقوس لا تمل من معايشتها كل يوم وكل لحظة وكل نبضة ، من أول لقاء ، لآخر غمرة كانت بينهما، من أول كوب شاي ساخن طلباه على استحياء في يوم ماطر بالمشاعر الدافئة، لآخر موعد غداء اختارا أطباقه بدقة ونسيا أنهما الطبق الرئيسي، من أول هدية قدمها لها، لآخر سلة ورود نثرها في طريقها في مطعمهما المفضل.

تفاصيل كثيرة تأخذها إليه، كذلك العطر الفرنسي الذي كانت تتركه على كل زهرة تهديها إياه في كل لقاء، كطقس من طقوس قسيس في تعميد طفل الحب المولود في كل لقاء بينهما على المقعد الخشبي المعتق في الحديقة المجاورة للمقهى الخاص بهما.

مقالات ذات صلة

مر وقت طويل على آخر لقاء كان بينهما ، ما إن وقفت خلف نافذة أحلامها الحاضرة في قلبها، إلا وشدت الستارة قليلا وبرفق أزاحتها، وكأنها مثقلة بشيء يشبه إطلالتها، بل يشبه غيابه الطويل عن كفيها اللذان اعتادا أن يمسكانه بقوة في كل لقاء، كيف لا وهي تراه كل يوم من خلالها.

كان ذلك الموعد مميزا، كلما دقة الساعة تذكرت تفاصيله الغائبة الحاضرة، فعندما كانا يلتقيان، كان يطبق على أصابعها جيدا، ويقبل يديها وكأنه يضع رسم الحضور، يغازل عينيها الربيعيتين، وبرفق يمسح على شعرها المسترسل فوق كتفيها.
ها هي الآن تعد الدقائق والأيام والسنين، لم يعد هناك ظل يأخذها بعيدا في كل غمرة لهما … لماذا لم يأت بعد …؟!

تلك النافذة التي تشرع على شرفة خشبية معتقة تميل للون ذكرياتها الباهتة التي تآكلت أعمدتها، لا شيء يقيها من عصف الحنين، هناك ذلك الظل الذي ترقبه كل يوم، اخرج من جيب معطفه القديم الذي ما زالت تذكره جيدا ، بقايا زهرة ذابلة، محملة بعطرها الفرنسي ، وبدأ يعصرها بقوة ويمتشق رائحتها بكل ما أوتي من حنين، وكأنه يعيد لروحه نبضه الفطري، وبلحظة يقظة سرعان ما أعاد تلك الوردة إلى معطفه، وكأنه قد خاف من نسمة تبعثر ما علق بها من ذكريات.

أطلق يده الأخرى حاملا فنجان قهوة مائي عتيق، يتعمد في كل مرة الشرب فيه؛ ذلك اللون الذي يصل عمق البحر، ويمضي به طويلا ليصل حد اتساعه، يرتشف قهوته وكأنه يضمد ما علق به من حنين وكأن هناك شيئا ينتظره، شيئا يشبهها ويشبه تفاصيلها، شيئا يشبه عطايا البحر وحد كرمه.

استدار قليلا صوب منصب لوحته الزيتية التي ما زال يبحر بتفاصيلها منذ شهر تقريبا، أخرج فرشاته ونفض عنها ما علق بها من ذكريات باهتة، وأمسكها بقوة، ما زالت تتذكر كيف كان يطبق عليها بأصابعه ، عندما طلب منها اتخاذ وضعية على ذلك المقعد الخشبي ، بدأ يحرك فرشاته بخفة وبحرفة ، رسم شيئا يشبهها، رسم ظلا يتأرجح فوق مقعدهما المفضل.

صوت يباغت غرفتها جعلها تعود خطوة للوراء وتلقي الستارة، وكأنها تترك للمشهد شيئا يشبه المشهد الثاني من مقطوعتها، لكنها كانت تجهل أنها ترصد منها مشهد الخاتمة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى